المحور الأول: البيئة ومشكلاها.
طروحات البيئة عند المفكرين :
فريدريك لابلاي:(1806-1882): نستطيع أن نتلمس الجانب الايكولوجي في فكر لابلاي في اهتمامه بوضع عدد من التعميمات التي تدور حول تأثير البيئة الطبيعية والجغرافية(المكان)على الجوانب المختلفة للحياة والتنظيم الاجتماعي، ولقد كان هذا التأثير أمرا معروفا ومعترفا به حتى قبل لابلاي، إلا أن الفضل يرجع لدراسته الجادة في أنها أثرت في معرفتنا بهذا المجال، وفي أنها أوضحت مظاهر هذا التأثير ووسائله، خاصة فيما يتعلق بارتباط المكان بالعمليات الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي ،وأن السبب لتنوع الشعوب وسلالات العالم يرجع في نظره إلى المكان الذي انحدرت منه، أي إلى البيئة التي تخلق على حد تعبيره كل من السلالة والنمط الاجتماعي، حتى أن تغير يطرأ على المكان والبيئة يصاحب بالضرورة بتغيرات في خصائص السلالة وفي توزيع الأنماط البشرية الاجتماعية.[i]
وهذا يتوافق كما قلنا مع آراء الكثير من المفكرين خاصة ابن خلدون في أن البيئة بتأثيراتها تتحكم في فرض نمط معين من السلوك والنمط الاجتماعي، وهذا يتبين لنا في لون البشرة واللغة وطرق العيش...الخ.
فالعالم بمواقعه الجغرافية المتعددة والمتباينة نتج عنه مجتمعات متباينة في اللغة فلو أخذنا فرد عربي كان يعيش في بيئة عربية وتتميز ببعض الخصائص الثقافية وبنط معيشي معين وبقيم مختلفة عن باقي المجتمعات الأخرى، وأخذناه للعيش في أمريكا فبمرور الزمن سوف تتغير لغته وثقافته وحتى قيمه، لأن كثير من الأشخاص بعد احتكاكه بثقافات أخرى تتغير عنده ثقافته ويكتسب ثقافة المجتمع الذي بات ينتمي إليه دون أن يشعر بذلك وهذا ما أشار له لابلاي ضمنيا في حديثه وهي نظرية صحيحة وواقعية ومجربة، تؤكد أن البيئة تفرض المجتمعات بعض الخصائص الثقافية والجينية التي لاتوجد في مجتمعات أخرى.
-ابن خلدون Ibn khaldoun ( 1332-1404):
يعتبر ابن خلدون الأب الروحي لعلم الاجتماع، الذي كان في بداية الأمر يهتم بالفلسفة والتاريخ إلى أن اكتشف علم الاجتماع وسماه في زمانه" بعلم العمران البشري وقد برهن على ذلك بقوله" بينما أنا أدرس التاريخ اكتشفت أنني أدرس في علم لم يسبقني إليه أحد " وقد ألف كتاب يعتبر مرجعا أساسيا في علم التاريخ وعلم الاجتماع وبرهان على أسبقيته لهذا العلم سماه" بالمقدمة"، ولقد تناول ابن خلدون موضوع الايكولوجية كإحدى المواضيع السوسيولوجية المهمة التي تأثر في الفرد ويؤثر فيها.
وأرجع ابن خلدون في مقدمته كثير من الظواهر الاجتماعية الموجودة في المغرب والسودان ومصر إلى عوامل ايكولوجية بالمفهوم الحديث، كأثر الهواء باختلاف البشر[ii] ويطلق عليها عادة بالمرفولوجيا، ويقصد بها أشكال التجمعات والجماعات وعاداتهم وأشغالهم[iii] ...وقد تعرض لإظهار أثر العوامل الجغرافية على المظهر العمراني، ففي الباب الأول من المقدمة وفي الجزء الذي أسماه: في المعتدل من الأقاليم و المنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر وأخلاقهم والكثير من أحوالهم[iv] حيث يرى أن الأقاليم المعتدلة يكون سكانها أعدل أجساما وأخلاقا[v].
فاهتمام ابن خلدون بالإيكولوجيا لم يكن بدافع الفضول بقدر ما كانت أبحاث بحث في الظواهر الاجتماعية المختلفة حسب البيئة.
- مونتيسكيو Montesquieu (1689-1755):حاول مونتيسكيو في كتابه روح القوانين أن يخضع السلوك البشري للضوابط البيئية الطبيعية، حيث أشار إلى العلاقة بين النظم والتشريعات وبين طابع المؤثرات الجغرافية[vi] على المجتمع الإنساني والحياة الاجتماعية، كما يمثل في نظرنا مصدرا من المصادر المبكرة و الهامة في الايكولوجيا الاجتماعية.
ومن هنا يتبين لنا دور القوانين حسب رؤية مونتيسكيو في استخلاصها وسن التشريعات التي تكون وليدة بيئة معينة وتطبق على أشخاص معينين ولهم صفات محددة تفرضها البيئة والمجال الجغرافي الذي ينتمي إليه هؤلاء الأفراد وهذا من أجل التوافق إلى جانب التفاعل المنسجم بين مختلف النظم و القوانين ووسائل الضبط الاجتماعي التي تستخدمها كل جماعة، ومن ثم شرع مونتيسكيو في البحث عن العوامل المؤدية إلى تنوع الخصائص الثقافية و الفيزيقية بين شعوب العالم، فتوصل إلى أن أهم عوامل التنوع الثقافي وتنوع الأنماط البشرية يتمثل في المؤثرات الجغرافية و بخاصة ظروف المناخ، وانتهى إلى أن بحث هذه العوامل وتحليل أثارها يمكن من فهم السمات المختلفة والمتمايزة لشعوب العالم، كما يمكن من تحديد القوانين والتنظيمات المناسبة لكل نمط من الأنماط البشرية المتنوعة[vii].
وبغض النظر عما تنطوي عليه نظرة مونتيسكيو من حتمية جغرافية متطرفة في كثير من جوانبها، إلا أنها بتركيزها على خصائص البيئة والعوامل البيئية كمتغير تفسيري، كانت قد مست قضية لا تزال تثير قدرا من الجدل في الفكر الاجتماعي و الإيكولوجي على حد سواء، كما أنها مهدت في الوقت ذاته بنظرة أخرى كانت – ولا تزال سمة بارزة من سمات المنظور الإيكولوجي، واعتبار المكان و خصائصه عاملان أساسيان في التنوع الثقافي و الاجتماعي،أو بصفة خاصة الاهتمام بدراسة التوزيعات المكانية للسمات الثقافية و الظواهر و النظم الاجتماعية.
كذلك فإنه وبغض النظر أيضا عن اختلاف مستوى التحليل بنظرة مونتيسكيو، وتلك النظرة الايكولوجية التقليدية والتي ركزت على المجتمع المحلي في مقابل المجتمع بالمعنى العام و الواسع، إلا أن تأكيد مونتيسكيو بأهمية العوامل الجغرافية في تشكيل النظم الاجتماعية[viii] كانت في نظر الكثيرين مثل بارنز دافعا لتطوير الأنتروجغرافيا وهذا من المصادر الايكولوجية البشرية بفرعيها.
مع العقود الأولى للقرن 18 شهدت فرنسا ظهور أفكار جغرافية سياسية رصينة صاغها مونتسكيو (1689-1755) جنباً إلى جنب مع ما قدمه من أفكار اجتماعية وفلسفية وقانونية، ويبدوا أن اعتقاد مونتسكيو الشديد في الحتمية البيئية نحا به لأن يربط مجمل السلوك السياسي للدولة بالعوامل الطبيعية وعلى رأسها تحكم المناخ والطبوغرافيا مع التقليل من مكانة العوامل السكانية والاقتصادية، وظل تقييم دور العوامل المكانية (الجغرافية) في تاريخ ومستقبل الدولة السياسي بدون صياغة متكاملة[ix] ونظرا لتراكمية العلم والاستفادة من الأساسيات العلمية في المتغيرات الجديدة ظهرت في المجتمع الألماني أفكار فردريك راتزل (1844-1904) والذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف يحمل عنوان "الجغرافيا السياسية" في عام 1897م،آمن راتزل بأفكار داروين في التطور البيولوجي التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر، وصبغ راتزل صياغته لتحليل قوة الدولة بالأفكار الداروينية التي طبقها الفيلسوف الإنجليزي سبنسر في العلوم الاجتماعية تحت اسم "الداروينية الاجتماعية"[x]
-ليستر وارد lester Ward(1841- 1913) : تضح اهتمامه حينما ميز في النسق الاجتماعي بين النشأة والتطور التلقائي للبناءات والوظائف الاجتماعية وبين العمل الإصلاحي المقصود والواعي [xi]، وهو يشاطر كثير من علماء الاجتماع الوظيفيون الذين يعالجون الأنساق والبناءات وما تؤديه من وظائف وأهمية التكامل في لعب الأدوار انطلاقا من التكامل النسقي الذي يؤدي إلى التكامل الوظيفي.
بدأ وارد بقضية أساسية مؤداها أن النمو الاجتماعي يقتضي ضبطا و توجيها للطاقة، وذهب إلى أن هناك طريقتين لتحقيق هذا الضبط تتمثل الأولى في الضبط الغير واعي الذي تقوم به الطبيعة والذي يتمثل في النشأة و النمو التلقائي، أما الثانية فهي الضبط الواعي من جانب العقل ممثلا في الإصلاح المقصود والوعي[xii].
إن هذه العمليات التي من خلالها وبمقتضاها يتم ضبط القوى الديناميكية في الطبيعة والمجتمع عن طريق توافق الغايات و الوسائل، تمثل جوهر الإصلاح الواعي المتعمد، "أي تحقيق التوازن بين الأخذ و العطاء في العمليات الاجتماعية في الطبيعة باستعمال طرق ووسائل بوعي مقصود من طرف الأفراد"[xiii]، وبالتركيز على الإستاتيكا الاجتماعية نجدها في نظر وارد ترتبط بالتوازن الاجتماعي، و توطيد النظام الاجتماعي العام في عملية مستمرة للنضال من أجل البناء، وأكثر منها نضالا من أجل البقاء أو الوجود، وخلل هذه العملية يكون العمل الاجتماعي التعاوني أكثر المبادئ أهمية و ضرورة و التي توحد كل الأبنية و تفسر كل التنظيمات، وعن طريقه تشترك القوى المتنافرة في الطبيعة و تتعاقب في شكل تعاقب مسطر لعمليات التصادم فالصراع فالتنافر فالتنافس فالتفاعل الاجتماعي في المجال الحيوي[xiv]، ومن هنا نرى بأن سبنسر مثلت أعماله مرحلة متطورة في الأيكولوجيا البشرية، فقد نظر إلى الكائن الحي والمجتمع على أساس التفاعل بين كل منهما والبيئة التي يوجد فيها[xv] المجال الاجتماعي و المجال الحيوي من أجل تحقيق المصلحة المشتركة والتفاعل فيما بينهم، كذلك الديناميكا يربطها بالتقدم و بتغيرات بناء المجتمع، فالجهد الذي يبذله الفرد لإشباع حاجاته و التوافق مع بيئته يعتبر في نظره أهم عوامل التقدم[xvi].
- باتريك جيدز Ghidenze Patrick( 1854- 1932) :تأثر باتريك جيدز بأفكار هايكل و هكسلي البيوإيكولوجية، إلا أنه تجاوز اهتمامها بالدراسات المورفولوجية، التي تؤكد على ما هو جامد و ميكانيكي إلى دراسة الكائنات الحية التي تتفاعل مع بعضها البعض ومع بيئتها المختلفة.
لقد إهتم بدراسة الأداء الوظيفي للكائن العضوي في بيئته. ..، ونظر إلى الحياة الاجتماعية للإنسان على أنها شيئا متصلا و مستمرا مع حياة الكائنات الحية الأخرى، لذلك نجده يترجم أطراف الثالوث الإيكولوجي إلى مفهوم أوسع مثله في ( المكان و العمل و الناس).
ولقد أدرك جيدز لمفهوم الطاقة وحاول أن يتتبع تطبيقاتها و نتائجها على المجتمع الإنساني، وفي هذا الصدد ذهب إلى أن "الجماعة الإنسانية لا تتأثر فحسب ببيئتها، بل تتعلم كيف تسيطر عليها من خلال تحسين أدواتها ومعداتها"... [xvii].
إن الحياة في نظره ليست مجرد بيئة تؤثر على الكائن، بل هي أيضا مسألة كائن حي يؤثر في البيئة و يعدلها.
لقد ساهم جيدز بأعمال كثيرة في الاهتمام بالإيكولوجيا وبإبراز دورها في تاريخ العلوم الاجتماعية[xviii]...،فهو يرى بأن الطبيعة تعدل باستمرار من خلال الفعل الإنساني – أي أنه كلما كان الفرد يمارس نشاطاته فهو يؤثر عليها ونتائج العمل لها علاقة بحاجة الإنسان إليها إما بتطويرها أو تغيير شكلها إيجابا مثل البناء والتشييد وتزيين المحيط، أو سلبا كتلويثها وقطع الأشجار والإساءة إليها بشكل عام، كما كان له بعض الإسهامات التطبيقية في مجال الإيكولوجيا الحضرية من أبرزها إعادة تخطيط العديد من الأحياء، وتخطيطه وتنفيذه لأكثر من خمسين مسحا لمدن الهند وفلسطين، ولقد كان لأعماله النظرية و التطبيقية أثرا واضحا في تطوير الأسس النظرية والمنهجية للدراسات الإيكولوجية[xix].
-إميل دوركايم (1858- 1917):لم يكن دوركايم عالما إيكولوجيا بقدر ما كان فيلسوفا وعالم اجتماع[xx]... لكنه اطلع على كتابات هايكل الذي يعتبر الرائد الأول لإيكولوجيا النبات، حيث نلتمس من كتابات دوركايم بعض الجوانب الهامة للمدخل الإيكولوجي لدراسة المجتمع، و اعتبر دوركايم المرفولوجيا الاجتماعية أحد الفروع الأساسية التي ينقسم إليها العلم، ثم قسمه إلى مبحثين رئيسيين هما: دراسة الأساس البيئي للتنظيم الاجتماعي من ناحية، ودراسة الظواهر السكانية كالكثافة و الحجم و التوزيع المكاني من ناحية أخرى، وكان هذان المبحثان أكثر الاهتمامات السوسيولوجية تطابقا مع الاهتمام الإيكولوجي فيما بعد.
ففي كتابه "تقسيم العمل الاجتماعي"[xxi]الذي نشر أول مرة سنة1893، نجده يقول: (فإذا زاد العمل تخصصا بزيادة المجتمعات حجما و كثافة، فإن ذلك لا يرجع إلى ظروف خارجية، بقدر ما يرجع إلى حقيقة أن النضال من أجل البقاء و الوجود، أصبح أكثر حدة) ، وهذا ما يتأكد لدينا الإسهامات الأولى في حقل السوسيولوجيا سواء الغربية أو العربية التي ساندت فكرة التخصص والاهتمام المتفرد بدراسة الظواهر الاجتماعية، مما أدى إلى ظهور تخصص يهتم بالبيئة والتربية البيئية، والمتأمل أو الدارس للتراث الثقافي السوسيولوجي يكتشف أن البيئة والمجال الحيوي والطبيعة والمناخ كانت من الركائز الأساسية التي تساعد على تفسير الظواهر الاجتماعية عند هؤلاء المفكرين.
3-1- ماهية البيئة ومكوناتها: من أجل تحديد مفهوم البيئة لا بد من عرض جملة من التعريفات التي تباينت بين التخصصات، حتى نكون قد استوفينا شروط الموضوعية، ومن أجل الإحاطة وحصر المفهوم في مجاله العلمي وتقريب الصورة الحقيقية للقارئ فكلمة بيئة في اللغة العربية مأخوذة من كلمة" باء"، باء إلى الشيء بوءا أي رجع إليه، وتبوأ تعني نزل وأقام.[xxii]
وقد جاء بالمعجم الوسيط أن البيئة هي المنزلة، ويقال بيئة طبيعية، وبيئة اجتماعية، وبيئة سياسية كما جاء بالمعجم الوجيز أن البيئة هي المنزل و البيئة ما يحيط بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيها[xxiii]
وفي المعجم الفرنسي: la rousse
عرف كلمة "البيئة environnement على أنها كل ما يحيط بالكائن الحي أو أي نوع أخر وما يجاوره من عناصر كيميائية أو بيولوجية طبيعية أو اصطناعية"[xxiv].
كما ذكرها الله في المصحف الشريف في مواقع كثيرة مثل في سورة يوسف، قال الله تعالى: (( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ))[xxv].
اصطلاحا: البيئة هي الوسط المحيط بالإنسان، و الذي يشمل كافة الجوانب المادية و غير المادية، البشرية منها وغير البشرية، وتعني كل ما هو خارج عن كيان الإنسان، وكل ما يحيط به من موجودات.
أما البيئة بإطارها الواسع تعني الوسط الذي يحيا فيه الإنسان و يحصل منه على مقومات حياته من غذاء وكساء و مأوى وعلاج وترفيه، فقد ارتبط معناها بالتلوث، باعتبار أن التلوث أخطر مشكلات البيئة، حيث تأثر آثاره الضارة على الإنسان و ممتلكاته[xxvi].
- مكونات البيئة :
ليس هناك اختلاف كبير بين الباحثين فيما يتعلق بمكونات البيئة من حيث المضمون، وإن اختلفت المفردات أو اختلف عدد هذه المكونات، ففي مؤتمر ستوكهولم عام 1976 أكد على أن البيئة هي كل شيء بالإنسان، ومن خلال هذا المفهوم الشامل للبيئة، يمكن تقسيم البيئة التي يعيش فيها الإنسان مؤثرا فيها و متأثرا بها إلى قسمين مميزين هما :
1- البيئة الطبيعية naturel environnement: ويقصد بها كل ما يحيط بالإنسان من ظواهر حية و ليس للإنسان أي أثر في وجودها و تتمثل هذه الظواهر و المعطيات البيئية في البنية و التضاريس و المناخ و التربة و النباتات و الحيوانات، ولا شك أن البيئة الطبيعية هذه تختلف من منطقة إلى أخرى تبعا لنوعية المعطيات المكونة لها.
2- البيئة البشرية environnement humain: ويقصد بها الإنسان وإنجازاته التي أوجدها الله داخل بيئته الطبيعية، بحيث أصبحت هذه المعطيات البشرية المتباينة مجالا لتقسيم البيئة البشرية إلى أنماط و أنواع مختلفة[xxvii]...
فالإنسان يختلف من منطقة لأخرى من حيث كثافته وتنوع سلالته ودرجة تحضره و تفوقه العلمي، مما يؤدي إلى تباين البيئات البشرية، ويميل بعض الباحثين إلى تقسيم البيئة البشرية إلى نوعين مختلفين:
3- البيئة الاجتماعية: environnement social: ويقصد بها ذلك الجزء من البيئة البشرية التي تتكون من الأفراد و الجماعات في تفاعلهم، وكذلك التوقعات الاجتماعية و أنماط التنظيم الاجتماعي و جميع مظاهر المجتمع الأخرى، كما تتضمن البيئة الاجتماعية أنماط العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد و الجماعات... تلك الأنماط التي تِؤلف النظم الاجتماعية و الجماعات في المجتمعات المختلفة[xxviii].
4- البيئة الثقافية: environnement cultural:: ويعني بها الوسط الذي خلقه الإنسان لنفسه بما فيه من منتجات مادية و غير مادية، وفي محاولته الدائمة للسيطرة على بيئته الطبيعية، و خلق الظروف الملائمة لوجوده و استمراره فيها[xxix]، و هذه البيئة التي صنعها الإنسان لنفسه و ينقلها كل جيل عن الأخر، و يطور فيها ويعدل و يبدل تسمى البيئة الثقافية للإنسان، وهي خاصة بالإنسان وحده، و عليه فإن البيئة الثقافية تتضمن الأنماط الظاهرة و الباطنية للسلوك المكتسب عن طريق الرموز، الذي يتكون في مجتمع معين من علوم و معتقدات و فنون و قوانين و عادات وغير ذلك.
- البيئة المشيدة: و تتألف من المكونات التي أنشأها ساكنو البيئة الطبيعية ( الناس)، و تشمل كل المباني و التجهيزات و المزارع و المشاريع الصناعية والطرق و المواصلات و المطارات و الموانئ إضافة إلى مختلف النظم الاجتماعية من قوانين ومعتقدات وتقاليد تنظم العلاقة بين الناس[xxx] ،وهي ما يسميها ماكس فيبر بالبني التحتية للمجتمع .
و هناك تصنيفا أخر لمكونات البيئة و يرى بأن للبيئة ثلاث مكونات:
- المحيط الحيوي: و الذي يمثل بيئة الحياة الأصلية أو الفطرية التي أوجدها الله في الإنسان... وما يحيط به ( أي المخلوقات الأخرى).
- المحيط المصنوع أو التكنولوجي: ويتكون من كافة ما أنشأته يد الإنسان في البيئة الطبيعية باستخدام مكوناتها مثل المستوطنات البشرية، و المراكز الصناعية، و الطرق و المواصلات، و المشاريع الزراعية وغير ذلك.
- المحيط الاجتماعي: و يقصد به المنظومة التي تدير في إطارها الجماعة البشرية شؤون حياتها الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية، وهذه المنظومات الثلاث تتفاعل فيما بينها مؤثرة ومتأثرة.[xxxi]
3-2-النظام البيئي ومكوناته:
النظام البيئي: يشير مفهوم النظام البيئي كما عرفه"تنسيليtansili عام 1935 بأنه الجمع بين الجانبين( الكائنات و البيئة ) في كيان واحد متحد، والذي يجسد عمق العلاقات بين الأحياء و مجموعة الظروف البيئية المحيطة المؤثرة، بينما عرفه" فيرنادسكي firnadiski" عام 1929 مفهوم النظام البيئي بأنه الحيز أو النطاق الذي يشتمل على نظام الحياة في كوكب الأرض.[xxxii]
كما يعد النظام البيئي وحدة طبيعية على شكل شبكة معقدة يتكون من كائنات حية، ومن مكونات البيئة الأخرى[xxxiii]و تتكون البيئة الطبيعية من ظواهر وأشياء فيزيائية كالطقس و الضغط الجوي و الهواء و الماء، وظواهر و أشياء عضوية كالنبات و الحيوان...وإن كانت هذه الظواهر تبدو مستقلة عن بعضها البعض فهي ليست كذلك في حقيقة الأمر، وإنما هي كل مركب يعمل وفق عملية التعايش بالتطفل والاستهلاك، وهذا يبين الغاية من تنوع الكائنات الحية النباتية والحيوانية ، لأنها تشكل سلسلة غذائية ومركب نسقي بنائي متوازن أي اختلال فيه يؤدي إلى اختلال في النظام البيئي ككل.
فالتناسق بين مكونات البيئة قائم، و التوافق بين حركة هذه المكونات قائم كذلك...، كما أن مكونات البيئة الطبيعية تتبادل المواد والطاقة في إطار نظام معين يطلق عليه علماء البيئة إسم " النظام البيئي " وهو نظام متوازن تتضافر كافة مكوناته لكي توفر مقومات الحياة و عوامل البقاء... إذن توافق زمني دقيق بين حركة مكونات النظام الذي يقوم على وحدة الهدف و الغاية – ونعبر عن ذلك بأن عناصر النظام ترتبط فيما بينها بعلاقة و وظيفية.
فحرارة الشمس تبخر مياه المسطحات المائية ويتحول البخار إلى سحاب فتسوقه الرياح إلى الأرض الميتة، فينزل المطر ثم ينبت الزرع و الأكل للكائنات الحية، يقول الله تعالى: (( أو لم يروا أن نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون))[xxxiv].
فكل شيء في هذه البيئة متكامل و متناسق يخدم بعضه بعضا، والكون الذي نعيش فيه يخضع لدورة حيوية تتضافر فيها كافة الظواهر و الأشياء، لإنتاج مقومات البقاء من أجل استمرار الحياة، وهذه الدورة الحيوية تتم بفضل سلسلة من عمليات تشكيل و انتقال للطاقة.
فالكون يكون نظام بيئي مترابطا متكاملا تتحرك فيه كافة الأجزاء، من مجرات و نجوم وكواكب و أقمار، في حركة دائمة و متوافقة تحكمها قوى محددة[xxxv].
خلق الله الكون و جعل لكل شيء فيه قدرا على النحو الذي يتحقق معه توازن النظام الكوني في مجموعته، و توازن كافة الأنظمة البيئية الفرعية و الأقدار الدقيقة التي خلقت بها الأشياء، و ذلك يكشف لنا عن عظمة الخالق و علمه المطلق.
ويقول الله:(( أولم يرى الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقتاهما، و جعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون))، يقول بعض المفسرين: بأن السماوات و الأرض كانتا شيئا واحدا و حقيقة متحدة (ففتقناهما) بالتنويع و التحريك، ولكن هناك قول أخر مفاده أن السماوات كانت واحدة ففتقت حتى صارت أفلكا، وكانت الأرض واحدة فجعلت طبقات و أقاليم.
ونقل عن ابن عباس "أن السماوات و الأرض كانتا رتقا أي لا تمطر، والأرض كانت رتقا أي لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلا، فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالإنبات"[xxxvi]، وهذا من أجل جعلها صالحة للحياة، فخلق فيها سبحانه كل مل يضمن الحياة الكريمة، لكن الاستغلال الجيد لهذه النعم لا يكون إلا بالعلم، بمعنى الوعي بأهمية هذه النعم وكيفية المحافظة عليها، والعي بأهمية الإرث المشترك للبشرية.
وفي علم الكونيات المعاصر نجد نظرية تقول بوحدة الكون منذ بدء الخلق وهي نظرية " الانفجار العظيم"، هذه النظرية تفترض أن كل المادة في الكون كانت منذ ما يتراوح بين عشرة و عشرين مليار عام، معبأة في كتلة متناهية الكثافة، وقد انفجرت فيما بعد انفجار ا عنيفا، قذف بالمادة في جميع الاتجاهات و بسرعة هائلة.
ويتكامل مع هذه النظرية اتجاه في علم الفيزياء المعاصرة يطلق عليه اسم "المبدأ الإنساني"، مؤداه أن الكون بظروفه الأولية وبنيته العامة، و بتواجد نواميسه و خواصه و بأبعاده الشاسعة و سرعة تمدده، كان مهيأ منذ البداية لنشأة الحياة و الوعي و استقبال الإنسان في مرحلة من مراحل تكوينه[xxxvii].
فهذه نظرة على حكمة هذا الكون و توازن النظام البيئي المحكم فيه، فالصحراء نظام بيئي، و الغابة نظام بيئي، و الأرض و المزرعة نظام بيئي، والتربة نظام بيئي، و النهر نظام بيئي، و البحر نظام بيئي...، وتتميز هذه الأنظمة باتزان مرن يستوعب التغيرات عميقة الأثر من قبل الحرائق، و الرعي الجائر، و الاحتطاب و الصيد الجائر، و الإسراف في استخدام المبيدات بأنواعها فإنها تؤدي إلى إرباك النظام البيئي بشكل لا يقدر أن يأخذ معه صورة من الاتزان...، وذلك لأن التدخلات الجائرة تقلل من التنوع في المكونات[xxxviii].
3-4-اختلال التوازن البيئي وأسبابه:
ينشأ اختلال توازن البيئة نتيجة لتغير بعض الظروف الطبيعية كالحرارة و الأمطار، وقد ينشأ نتيجة لتغير بعض الظروف الحيوية المؤسسة على علاقات الكائنات الحية التي تعيش في البيئة و أثر بعضها على البعض، كما قد ينشأ اختلال البيئة نتيجة لتدخل الإنسان المباشر في تغيير ظروف البيئة[xxxix].
ونشير بإيجاز فيما يلي إلى بعض مسببات اختلال التوازن البيئي.
-تغيير الظروف الطبيعية: يلمس الدارس للعصور الجيولوجية – وما تميزت به من كائنات حية – ظهور كائنات لم تكن معروفة من قبل، و اختفاء لأنواع أخرى، نتيجة لتغير الظروف الطبيعية واختلال في التوازن، ثم بعد فترة تطول أو تقصر يحدث توازن جديد في إطار الظروف الجديدة المحددة له[xl]، ففي حقب الحياة الوسطى مثلا سادت الزواحف الضخمة، و كانت كل الظروف الطبيعية للبيئة تساند ذلك، ولكن التغير الذي طرأ على هذه الظروف بعد ذلك تسبب في انقراض هذه الزواحف فاختلفت البيئة، ثم عادت إلى حالة التوازن في إطار الظروف الجديدة فيما بعد.
وعندما تصاب مناطق معينة بالجفاف مثلا، فإن توازن بيئاتها يختل نتيجة للدمار الذي يكتسح الغطاء الأخضر الذي يغطي هذه المساحات، وما يستتبع ذلك من أثار ضارة على حيوانات البيئة.
-إدخال كائن حي في بيئة جديدة: إن إدخال كائن حي جديد في بيئة تتوفر فيها ظروف حياته و تقل فيها أعداؤه الطبيعية يؤدي إلى اختلال توازن هذه البيئة[xli]، و نذكر على سبيل المثال ما قام به أحد سكان جزيرة هاواي فقد استحضر عدة أزواج من الأرانب، فلما وجدت غذاءا كافيا، و مناخا ملائما، و قلة في الأعداء الطبيعيين التي تفتك بصغارها، توالدت بكثرة و تحول بعض منها إلى أرانب برية توالدت و انتشرت و أصبحت تتلف النبات بسرعة تفوق كثيرا نمو نباتات جديدة، و كان نتيجة ذلك في النهاية اختلال توازن البيئة، وأصبحت الأرانب لا تجد الغذاء، فهلكت من الجوع و هلك معها عدد كبير من الكائنات الحية الأخرى.
ونذكر في هذا المجال أن أغلب الآفات الزراعية الاقتصادية في مصر آفات غير متوطنة، و لكن الإنسان عن غير قصد نقلها من موطنها الأصلي، و قد نتج عن هذا النقل أن بدأت الآفة في التكاثر في الموطن الجديد حتى وصلت إلى المستوى الاقتصادي الضار نتيجة لانحسارها في عوامل "المقاومة البيئية "، أو بسبب وجود ظروف معينة أكثر ملائمة في الموطن الجديد، أو بسبب غياب الأعداء الحيوية التي كانت تحد من أعدادها في موطنها الأصلي، و من أمثلة ذلك حشرة فراشة دودة ورقة القطن، و دودة اللوز القرنفلية، و ذبابة الفاكهة و الحشرات القشرية و غيرها،وقد نقلت هذه الآفات التي ربما كانت موجودة و غير معتني بها.
-القضاء على بعض أحياء البيئة :
يسبب القضاء على بعض الكائنات البيئة في اختلال توازنها، فقد تكون هذه الكائنات صاحبة دور رئيسي في بعض التفاعلات البيئية التي تتناول الأجسام غير الحية، وقد تكون علاقات في سلاسل غذائية[xlii]، فقد اشتكى فلاحوا إحدى الولايات الأمريكية من فتك الصقور و البوم بصغار أفراخهم، فاستجابت الحكومة لهذه الشكوى وشجعت صيد البوم و الصقور نظير مكافأة مالية، فتم التخلص من 125 ألف طائر في ثمانية عشر شهرا، وأحدث ذلك اختلالا في توازن البيئة، إذا انتشرت الفئران انتشارا كبيرا، بسبب غياب هذه الطيور التي تعتبر عدوا طبيعيا لها إذ تتغذى عليها، وتبع انتشارها فتكها بالنبات... وهكذا كانت الخسائر أكثر جسامة، فأعادت الحكومة تحريم صيد الصقور والبوم حفاظا على توازن البيئة وتقليلا للضرر.
ونشير في هذا المجال إلى رأي أحد أخصائي الطيور، فهو يرى أنه لو انعدمت الطيور من البيئة لأصبحت حياة البشر في هذه البيئة متعذرة بعد فترة قصيرة لا تزيد على عشر سنوات من اختفاء الطيور، فالطيور تتغذى على أعداد هائلة من الحشرات الضارة التي تهلك النبات.
-تدخل الإنسان المباشر: يؤدي تدخل الإنسان في البيئة إلى الإختلال بتوازنها، فتجفيف البحيرات و اقتلاع الغابات، وردم البرك و المستنقعات، كل هذا يؤدي إلى اختلال بالتوازن البيئي الذي يستمر أثره إلى أن تستعيد البيئة اتزانها مرة أخرى في ضوء الظروف الجديدة [xliii] .
5-التلوث البيئي وأشكاله: يلخص مصطلح التلوث بأنه مختلف التهديدات البيئية التي يتعرض لها الأفراد، وأصبح في كثير من الأحيان أكثر ألفة بها.
ويعرف قاموس" ويستر" مصطلح التلوث: بأنه حالة من عدم البقاء أو عدم النظافة، أو أنها كل عملية تنتج مثل هذه الحالة، أما العوامل التي تنتج حالة التلوث تعرف بالملوثات" [xliv]،وهي المواد أو المكروبات التي تلحق الضرر بالإنسان أو تسبب له الأمراض أو تؤدي به إلى الهلاك، ويعتمد مدى التلوث على طبيعة النظام البيئي، وما يوجد فيه من توازن طبيعي بين مكوناته، وعلى مقدار ما سيحدثه الإنسان فيه من اختلال قد يقلل أو يزيد من الملوثات، وينتج التلوث كمحصلة طبيعية لزيادة عدد سكان العالم واستخدام الموارد، والتضخم الصناعي والزراعي وتدني مستوى التخطيط الإقليمي وعدم إتباع الطرق المناسبة والكافية في معالجة التلوث وغير ذلك من الأسباب [xlv]وعموما التلوث هو ظاهرة من صنع الإنسان، تتسبب في اختلال النظام البيئي تؤثر على الطبيعة والكائن الحي، كما أنه توجد ملوثات طبيعية لا دخل للإنسان فيها والأمثلة على ذلك فالإشعاع الأيونانيزي الطبيعي يوجد أضرار بيولوجية لا حصر لها كما أن غبار اللقاح من مختلف النباتات قد تساهم في انتشار أمراض التنفس، و الهيدروكربونات التي تصدر من الأشجار تساهم فيما يعرف بالضباب أو الدخان الكيماوي، و الجسيمات الدقيقة التي تنتج من انفجار البراكين والتي تأثر في الأحوال المناخية ومن هنا يمكن لنا أن نميز بين نوعين من الملوثات:
الملوثات الكيفية المركبة: هي تلك التي وجدت في البيئة بسبب الإنسان.
الملوثات الكمية: هي إسهامات من جانب المجتمع الإنساني أضيفت إلى عوامل البيئة الطبيعية، تلك العوامل التي توجد بذاتها في الطبيعة دون تدخل يد الإنسان.
التلوث كلمة ذات معنى عام، وهي تعني ظهور سيء في مكان غير مناسب وغير مرغوب في هذا المكان، بالرغم من أن هذا الشيء قد يكون مرغوبا فيه إذا وجد في مكان أخر، فمثلا زيت البترول شيء نافع ومرغوب فيه عندما يستخرج من باطن الأرض وتستعمل مقطراته وقودا في محركات السيارات، إلا أنه عندما ينتشر على سطح مياه البحر أو أن يظهر على رمال الشواطئ فإنه يعتبر شيئا غير مرغوب فيه وضارا لصحة الإنسان.
والتعريف الحديث للتلوث: هو كل مل يؤثر في عناصر البيئة بما فيها من نبات وحيوان وإنسان، وكل ما يؤثر في تركيب العناصر الطبيعية غير الحية(الماء والهواء و التربة...)[xlvi].
-أشكال التلوث وأسبابه: لا يمكن لنا أن نعرض كل أشكال التلوث البيئي، بل نقتصر على بعض مظاهر التلوث التي أصبحت أكثر انتشارا وتهديدا للبيئة، والتي يسعى الإنسان للحد منها، وهذا من أجل تقريب النظر للقارئ وإعطائه نظرة عنها.
5-1- تلوث الهواء: أصبح تلوث الهواء من أكبر أشكال التلوث البيئي وضوحا في عالمنا اليوم، وهذه المشكلة قديمة قدم الإنسان البدائي عند اكتشافه للنار، إلا أن كميات الدخان وجسيمات الكربون غير المحترقة والغازات لم تكن تمثل حتى عهد قريب مشكلة خطيرة جدا وأن النسق الإيكولوجي البشري ظل قادرا لفترات طويلة على امتصاص هذه الملوثات، فكانت تصعد في الهواء ويحملها الريح بعيدا، ولم يكن تلوث الهواء مشكلة إلا عندما زاد اتجاه الإنسان إلى الإقامة البيئية في المدن ،واتساع المجالات التي أصبح فيها احتراق الوقود ضرورة معيشية.
ولقد أصبح مشكل التلوث يهدد حياة الإنسان في جميع أنحاء العالم، ففي عام 1966 أعلن عن طوكيو وحدها 146 إنذار لضباب أسود خطير، كما أعلن أن عدد المصابين بالأمراض من سكان هذه المدينة يبلغ أربعة أضعاف عددهم من أي مكان أخر في اليابان، وقد بلغت هذه المشكلة ذروتها أين أصبح شرطة المرور يضطرون كل نصف ساعة لاستنشاق الأكسجين المودع في أسطوانات وضعت قي تقاطع الشوارع، وتعد كارثة لندن( عاصمة بريطانيا) التي تعرضت لها سنة 1952، والتي نتج عنها وفاة أربعة ألاف شخص إلى بضعة ألاف أخرى تعرضوا لأمراض في الجهاز التنفسي من أسوأ الكوارث حتى الآن في تاريخ التلوث[xlvii].
وتلوث الهواء أحد أخطر الملوثات باعتباره عنصرا أساسيا في الحياة البشرية النباتية و الحيوانية، وأحد معوقات استمرار الحياة والنشاطات، وذلك من خلال ما يتركه من أثر كالأزمات النفسية والأمراض التنفسية والقلق والضيقة خاصة عند سكان المدن، ومن هذا نحدد سبع أشكال أساسية لتلوث الهواء وهي: الجسيمات الدقيقة وأكسيد الكربون، وأكسيد النتروجين والهيدروجين و الكربونات، و الملوثات الإشعاعية والمواد المسببة للضباب الأسود.
تعتبر الجسيمات الدقيقة أوضح ملوثات الهواء، وهي تنتج عن احتراق الوقود بأنواعه المختلفة، وفي مختلف الأغراض سواء في المصانع أو محطات الوقود أو المنازل أو محارق القمامة أو المخابر أو غيرها من مصادر الدخان التي تكثر في المدن بصفة خاصة، ومن أكثر ملوثات الهواء في المدينة نجد كذلك الكربون، فقد جاء في إحدى الدراسات التي أجريت على بعض المدن الكبرى في بريطانيا، أنه من بين المصادر الرئيسية للدخان نجد المصانع بمختلف أنواعها سواء كانت صناعات ثقيلة أو خفيفة، وأن هذا الملوث يؤدي إلى الإصابة بمرض الإلتهاب الرئوي، ويعد أول أكسيد الكربون الملوث الوحيد الذي ينفرد الإنسان بإنتاجه على عكس الملوثات الأخرى، وتعد عمليات الاحتراق مصدرا أساسيا لانبعاثه، أما ثاني أكسيد الكربون يعد ثاني عناصر ملوثات الهواء انتشارا وخطورة، أو ربما كانت خطورته على الإنسان أكبر بكثير من مؤثراته على الكائنات الحية الأخرى، وهناك نوع آخر من ملوثات الهواء وهي مسببات الضباب الأسود"الهيدروكربونات" أي مركبات الهيدروجين مع الكربون، وأكسيد النتروجين مع الأكسجين وكل ما ينتج عن الاحتراق غير الكامل في المواقد وأفران المصانع و محركات السيارات.
كما أنه في العصر الحديث ظهرت ملوثات لم تكن معروفة في السابق، وتتمثل في المحروقات والغازات السامة المنبعثة من المصانع، والغاز الصخري الذي شكل تهديدا لسكان الجنوب الجزائري، خاصة بعد أن روجت أفكار توحي بأن الغاز الصخري تنبعث منه غازات سامة تلوث الهواء والماء وتشكل خطرا على السكان وعلى البيئة.
5-2-تلوث الماء ومصادره: لعل من أبرز التناقضات التي ظهرت في تاريخ البشرية أن الإنسان رغم حاجته للماء واعتماده الدائم عليه في معظم نشاطاته الفيزيولوجية والاجتماعية، إلا أنه لا يزال يتخلص من فضلاته في البحيرات و الأنهار التي تمتلئ بأهم المصادر التي تمده بما يحتاج إليه من ماء[xlviii]،وهذا ناتج من قلة الوعي البيئي.
وتغطي المسطحات المائية ما يقارب 70بالمائة من مساحة الكرة الأرضية، كما يقدر الحجم الإجمالي من مياهها بحوالي 1360 مليون كيلومتر مكعب، غير أن المياه المالحة في البحار والمحيطات قرابة 97.3 بالمائة من حجم مياه المسطحات المائية، إلى جانب 22 بالمائة تتحول إلى كتل جليدية يتعذر الاستفادة منها، ولا يبقى لبني الإنسان إلا 0.5 منها، أي حوالي 9 مليون متر مكعب من المياه العذبة التي تتمثل في مياه الآبار والبحيرات و الأنهار، بالإضافة إلى الكمية التي تتبخر بفعل الطاقة الشمسية من المسطحات المائية[xlix].
وكما هو الحال بالنسبة لتلوث الهواء فإن ملوثات الماء يقصد بها تلك المواد التي تؤدي إلى اختلال التوازن النصف إيكولوجي، وتحدث تأثيرات ضارة للمقدمات الحيوية للنسق الإيكولوجي، ومن أسباب تلوث الماء الاستعمال الغير عقلاني للثروات الباطنية، والانزلاق الأخلاقي للأفراد في صرف النفايات في المناطق التي تعتبر مصدرا للمياه، وباعتبار أن الماء عنصر أساسي لتكوين الحضارات ودفع عجلة الاقتصاد أصبحت المناطق المائية محل أطماع قوى استعمارية مثل منطقة دارفور في السودان، ومنطقة دجلة والفرات و النيل، والتي هي أطماع دول غربية منذ الأزل حيث جاء في الكتاب الأبيض أن أرض إسرائيل هي أرض الميعاد والتي تمتد من النيل إلى الفرات (بلاد كنعان ) هذه مجرد نظرة من أجل أن نبين قيمة الماء في الماضي والحاضر والمستقبل..وتتمثل ملوثات الماء في أربعة أشكال:
و هي:
- التلوث الطبيعي: وهي ظاهرة قديمة قدم الإنسان، حيث وجدت مخلفات في الماء منذ ظهور الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية[l] ،ولم يقتصر هذا التلوث على الفضلات الطبيعية للكائنات الحية فحسب، فالمادة العضوية اتخذت ممرا لها من الممرات و المسطحات المائية كالبحيرات والقنوات والبحار...الخ[li]، بالإضافة إلى الأراضي الزراعية و التربة الغير المحلية تلعب دورا بارزا في عملية تآكل التربة وتحليلها، وبالتالي تكوين الرواسب في الممرات المائية، لذلك أطلق على هذا النوع من التلوث بالتلوث الطبيعي، لأنه ينتج من خلال عملية التدفق و الانتشار والتحلل.
-التلوث الحراري: يحدث التلوث الحراري عادة عند استخدام الماء كوسيلة للتبريد في محطات توليد القوى ومصانع توليد الكهرباء، وبعض العمليات الصناعية الأخرى، أو عندما تحاول هذه المصانع التخلص من الماء الساخن فتصرفها في البحيرات و الأنهار والمحيطات، ولقد كشفت الدراسات على زيادة درجة الأنهار والمحيطات كما اكتشفت دراسات أن زيادة درجة الحرارة في الماء تسبب تلوثا مائيا بنسبة أكبر مما تحدثه المواد نفسها[lii] حيث تبين أن الماء الساخن أو الدافئ لا يستطيع أن يحتفظ بنفس الكميات من الغازات المذابة، بمعنى أن المحتوى الأكسوجيني للماء ينخفض بزيادة التسخين، وبطبيعة الحال ينشأ التلوث الحراري على هذا النحو في بعض المناطق مثل المناطق الاستوائية.
- التلوث الناجم عن البالوعات ( المجاري): من بين أخطر مظاهر التلوث الذي يعاني منه المجتمع، هو التلوث الناتج من البالوعات وقنوات الصرف الصحي، فهذه ظاهرة ملازمة للمجتمع الجزائري فكثيرا ما نشاهد الطرقات تغمرها المياه المتعفنة والت ظهرت نتيجة انسداد القنوات أو تحطمها، فغياب التخطيط العمراني المبني على دراسات علمية، وظهور البنايات الفوضوية أدى إلى ظهور أعمال الصيانة المتكررة للطرقات والقنوات والأحياء مما ينجر عنه تحويل للقنوات أو تحطمها أو اختلاطها بالمياه العذبة، الذي أصبح شكلا خطيرا من التلوث يهدد الإنسان وصحته ويعرضها إلى الخطر، بالإضافة إلى قلة الوعي عند الإنسان أصبح يفكر الفرد في نفسه فقط، فهو يقوم بتوجيه قنوات المنزل وصرف المياه الملوثة المختلطة بالصابون والتي تنبعث منها رائحة كريهة ونتنة فقط خارج منزله، ولا يهمه الوضع خارج المنزل،وحتى في مؤسسات التربية والتعليم ومؤسسات الدولة الأخرى تجد أن المراحيض والأماكن التي توجد بها المياه دوما ملوثة ومسدودة ، مما يؤدي إلى تراكم هذه المياه مما يؤدي إلى انبعاث رائحة كريهة وانتشار للأمراض الخطيرة مثل التفوئيد والربو ...الخ، وهذا النوع من التلوث يؤثر على البيئة وعلى الفرد ناتج من السلوكيات الغير العقلانية، ونتيجة لغياب الثقافة البيئية أيضا التي تجعل الفرد يدرك بمدى مسؤوليته في مضرة الآخرين، من أجل أن يعمل الاهتمام بهم وببيئة تليق بالإنسان والإنسانية .
5-3- التلوث الصناعي: هذا الشكل من التلوث من أوسع الأشكال المعروفة لأن مخلفات الصناعة ليست دائما نوع واحد أو أنواع محددة، بل تتنوع وتختلف باختلاف الصناعة و المنتجات الصناعية، ومن أهم الملوثات الصناعية الزيوت والمواد الصلبة (لحاء الشجر، نشارة الخشب التي تخلفها مصانع الورق و الألياف )، الجسيمات المترسبة تعتبر شكلا أخر هي تشبه المواد الطافية لكنها تختلف عنها في أنها تترسب في القاع من أمثلته برادات (القطع الصغيرة المتناثرة ) المعادن من مخلفات الورش و المصانع و الغبار الزغبي المتطاير من المصانع[liii] .
5-4- التلوث الضوضائي: الضوضاء في الوقت الراهن أصبحت عنصرا مستحدثا من عناصر تلوث البيئة، وهي ترتكز بصفة خاصة في المناطق الصناعية وفي التجمعات السكانية التي تزدحم فيها المباني وتكتظ بالسكان، و تتعدد مصادر الضجيج الذي نعاني منه في المدن الكبيرة وأسباب ذلك كثيرة [liv]نذكر منها ما يلي:
الأصوات الصادرة من السيارات ووسائل النقل الأخرى التي لا تتوقف ليلا ونهارا.
الأصوات الصادرة عن آلات الحفر، وبعض الآلات الأخرى المستخدمة عن آلات البناء و التشييد.
الضوضاء الناتج من ورشات العمل والمصانع.
الأصوات الناتجة من الملاعب وقاعات الرياضة.....الخ.
ويتداخل مع كل هذه الضوضاء خليط من الأصوات العالية الصادرة من التلفاز و المذياع ومكبرات الصوت من طرف بعض التجار.
5-5- التلوث الإشعاعي:إذا كان تلوث الماء و الهواء و البحر بالغازات السامة الصلبة و السائلة و الأحياء الدقيقة شيئا مألوفا منذ القدم، لكن اليوم في عصرنا ظهرت ملوثات جديدة قد أضيفت إلى تلك الملوثات وهي تضاهيها خطورة ومن هذه الملوثات المواد المشعة والحرارة[lv]،فالنشاط الإشعاعي ظاهرة طبيعية، وهو عملية مميزة لبعض العناصر الكيميائية دون غيرها، ولها أثار إيجابية وسلبية على صحة الإنسان و الحيوان والنبات و البيئة بصفة عامة، وتعرف المواد المنطلقة أثناء تحلل المواد المشعة باسم الإشعاعات النووية، وهي ملوثات خطيرة على البيئة وهي نوعان:
-الإشعاعات غير المؤينة للمواد: هي إشعاعات ذات موجة قصيرة وطاقة عالية، وهي تسبب الضرر لبعض الأحياء الدقيقة، ولكنها تؤثر تأثيرا في الأنسجة السطحية لأجسام الحيوانات و النباتات التي تتعرض لها، وقد تزيد هذه الإشعاعات من معدل انقسام الخلايا في أجسام الأحياء الدقيقة.
- الأشعة المؤينة: الأشعة المؤينة للأجسام هي أشعة ملوثة للبيئة، و لهذه الأشعة طاقة عالية يمكنها أن تأين الذرات و الجزيئات في الأجسام التي تتعرض لها، وتتأين الذرة إذا اكتسبت قدرا كبيرا من الطاقة يكفي انفصال إلكترون أو أكثر، وتأين الجزيء يؤدي إلى تكوين شقين مشحونين بشحنتين مختلفتين مثل تأين جزيء الماء بحيث ينشطر إلى نصفين، الهدروجين والأكسجين، وبالتالي يؤثر على التركيبات الضرورية في أداء وظائفها، مما يؤدي إلي اختلال النظام البيئي، كما أن هناك إشعاعات صادرة من المواد المشعة مثل اليورانيوم والإشعاعات الناتجة من التفاعلات النووية أو من المفاعلات النووية والتجارب النووية، فهي إشعاعات مدمرة للبيئة و لكل الكائنات الحية[lvi]،ومن أمثلة ذلك الإشعاعات الناتجة من انفجار القنبلتين النوويتين في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية مازالت لها أثار سلبية على الطبيعة، حيث أصبحت الطبيعة تبدو قاحلة ولا تتوفر فيها مظاهر العيش وذلك من خلال تأثيراتها على صحة الإنسان من ظهور تشوهات وعاهات خطيرة تعطل من حركته ووظائفه.
المحور الثاني: الهجرة غير الشرعية:
لقد أصبحت الهجرة غير الشرعية موضوع اهتمام كبير للمجتمع الدولي باعتبارها من القضايا الشائكة سواء بالنسبة للدول التي تعتبر مصدّرا للمهاجرين، أو الدول التي تعتبر محطة انتقالية، أو الدول المستقبلة لهؤلاء المهاجرين. ولعل منطقة البحر المتوسط منطقة نموذجية لملاحظة هذه الظاهرة إذ تعد نقطة عبور من شمال إفريقيا ودول الساحل نحو أوروبا. ففي البلدان المغاربية تعود جذورالهجرة إلى الحرب العالمية الأولى حيث أدّى توافد المغاربة نحو أوروبا إلى إعادة تشغيل المصانع المشلولة وكذا الانضمام للجيش. وتطورت عبر فترات تاريخية لتتأزم الأوضاع بأوروبا اليوم وتشكل بذلك أزمة المهاجرين غير الشرعيين، إذ لا بدّ من مواجهتها والحد من هذا التدفق، وبالمقابل ستظل الهجرة غير الشرعية من البلدان الشرقية نحو أوروبا بسيطة مقارنة بنظيرتها المغاربية على الرغم من وجود الدوافع نفسه[lvii]ا .
الهجرة الغير شرعية : هي الدخول الى دولة بطريقة غير قانونية. او البقاء في بلد ما بطريقة غير قانونية او الدخول بشكل قانوني وعدم الخروج ضمن المدة المحدد القانونية المسموح بها للبقاء .ان الهجرة الغير شرعية هي قضية تحتاج الى تقييم كل من البلد المقصود للهجرة , البلد المصدر وبلد العبور كل واحد على حدا.
الهجرة الغير شرعية : بالنسبة للبلدان المستهدفة او المقصودة للهجرة فيشمل الاشخاص القادمين الى هذه البلدان بطريقة غير قانونية او يأتون بطريقة قانونية ولا يخرجون من البلد ضمن المدة القانونية المسموح لهم البقاء في اطارها . اما بالنسبة لبلدان المصدر فتشمل الاشخاص الذين لا يتبعون الإجراءات اللازمة عند مغادرة بلدانهم.[lviii]
المهاجر:هو
الشخص الذي یقوم بالهجرة، ویستخدم هذا المصطلح النازح أو الوافد معا، ومصطلح
النزوح یعني ترك المكان ثم الوفود إلى مكان ما فالمهاجر
هو الشخص الذي ینتقل من مكان اقامته الأصلیة إلى إقامة جدیدة بهدف الاستقرار أو
العمل.
الحراق:هو مصطلح جدید ظهر مع تفاقم مشكلة الهجرة الغیر الشرعیة، وأصله من اللهجة الجزائریة وهو یستخدم بكثرة في وسط الشباب الذيیرغب في الهجرة بطرقة سریة وغیر قانونیة، بعبورهم البحار وتحملهم كل الصعاب والأخطار من أجل بلوغ الهدف وتحقیق حلمهم الكبیر ألا وهو الوصول إلى الضفة الأخرى )أوربا( من أجل الحصول على فرص عمل والعیش الكریم، فمنهم من یصل اليها، ولكن المصیر مجهول، ومنهم من یلقى حذفه في قاع البحار وهذامصير الأغلبية منهم[lix]
أسباب ودوافع الهجرة الغير الشرعية:
العوامل
المحفزة
تتجلى
أساسا في ثلاث عوامل:
– صورة
النجاح الاجتماعي:
الذي
يظهره المهاجر عند عودته إلى بلده لقضاء العطلة، حيث يتفانى في إبراز مظاهر الغنى:
سيارة، هدايا، استثمار في العقار الخ…. وكلها مظاهر تغذيها وسائل الإعلام المرئية.
آثار الإعلام المرئي: فالثورة الإعلامية التي يعرفها العالم جعلت السكان حتى الفقراء منهم يستطيعون اقتناء الهوائيات التي تمكنهم من العيش عبر مئات القنوات في عالم سحري يزرع فيهم الرغبة في الهجرة.
–
القرب
الجغرافي:
فأوروبا
لا تبعد عن الشاطئ المغربي إلا بـ14 كلم والشاطئ الإسباني يمكن رؤيته صحوا من
الشاطئ المغربي الممتد من طنجة إلى سبتة السليبة.
إضافة إلى هذه العوامل الاقتصادية والمحفزة، هناك عوامل أخرى مصدرها دول الاستقبال.
عوامل
النداء
إن
حلم الهجرة هو نتاج الممنوع، وهو رد فعل أمام غلق الأبواب أمام الهجرة الشرعية
والسياسة التي تبنتها أوروبا في هذا المجال والتي كانت لها آثار عكسية حيث أججت من
وتيرة الهجرة السرية وجعلت كلفتها باهظة بالنسبة للمرشح للهجرة.
وهكذا أصبحت الهجرة مشروعا مكلفا واستثمارا يقتضي تعبئة مصادر للتمويل من أجل تحقيقه من ديون ومن بيع للأرض والممتلكات… إلخ هذا ما يفسر كيفية إقبال المهاجر غير الشرعي على أي عمل مهما كان مذلا وصعبا لأنه في كل الحالات لا يقبل أن يرجع خاوي الوفاض.
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود طلب نوعي على العمل في دول الاستقبال، هذا الطلب يستجيب وفقا لمعايير كلفة تشغيل العامل ومرونته في قبول أعمال صعبة حسب احتياجات سوق العمل وغالبا ما تكون هذه الأعمال مؤقتة ومنبوذة اجتماعيا. هذا الطلب يصدر أساسا عن قطاعات كالفلاحة والبناء والخدمات.
ويوفر المهاجرون كذلك ما يحتاجه القطاع غير المهيكل من يد عاملة حيث يمثل هذا القطاع ما بين 20 و25% من الناتج المحلي الإجمالي في دول القوس اللاتيني.
وتحصل هذه القطاعات على امتيازات مالية واجتماعية بتوظيف هذه اليد العاملة التي تتميز بكونها طيعة وغير مكلفة.[lx]
العامل السياسي: كانعدام الاستقرار الناجم عن الحروب الأهلية والنزاعات وانتهاكات حقوق الانسان بسبب الانتماء العرقي، الديني والسياسي. أما العامل الاجتماعي، فيتمثل في مجالين مختلفين، ديمغرافيا أحدهما يعرف زيادة سكانية تصل إلى حد العجز عن تلبية الطلب الوطني كالشغل، السكن، الخدمات الاجتماعية، ومشاكل أخرى كالبطالة. ومن جهة أخرى الصورة الحسنة (التي يشكلها الأوائل الذين هاجروا إلى أوروبا واستقروا بها ثم عادوا بصورة أخرى للمجتمع الأصلي) والتي أوهمت فئة كبيرة من الشباب في التفكير في الهجرة بأية وسيلة.[lxi]
- الفقر: يعدّ الفقر من أبرز الأسباب المحتملة التي تؤدي إلى زيادة الهجرة غير الشرعية، وخير مثال على ذلك الأزمة الاقتصادية التي حصلت عام 1994 وذلك بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، وقد نتج عن تلك الأزمة تفشي الفقر بشكل كبير وانخفاض قيمة البيزو المكسيكي مقابل الدولار الأمريكي، وذلك ما أدى إلى زيادة أعداد المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة.
- الحروب: أحد أسباب الهجرة غير الشرعية الفرار من بلدٍ مزقتهُ الحروب، لكن في معظم البلدان لا يُعتبر الشخص اللاجئ بسبب ظروف الحرب مهاجرًا غير شرعي، فإذا منحت وضع اللاجئ في البلد المقصد سيحقّ لك البقاء فيه بشكلٍ دائم.
- لم شمل الأسرة: فقد يضطر الشخص المقيم في بلدٍ ما إلى جلب عائلته وأحبائه إلى ذلك البلد بشكلٍ غير قانوني، فعادةً ما تكون تأشيرات لم الشمل محدودة العدد وتخضع لنظام الحصص السنوي.
- الاكتظاظ السكاني: قد ينتج عن الاكتظاظ السكاني عدّة مشاكل مثل التلوث والفقر ونقص المياه وغيرها، وهذا ما يدفع الناس إلى الفرار من وطنهم واللجوء إلى دولٍ أجنبيةٍ بشكل غير قانوني، فعلى سبيل المثال معظم المهاجرين غير الشرعيين الموجودين في الولايات المتحدة هم من المكسيك، بسبب اقتصادها الفقير وانتشار عصابات المخدرات فيها والتي تقتل ما لا يقل عن 80 ألف شخص كل عام، بينما تتمتع الولايات المتحدة باقتصادٍ أكثر استقرارًا، وبيئةٍ آمنةٍ نوعًا ما.
- تحرير التجارة: ويُقصد بها إزالة القيود التجارية وتخفيفها، وفي الآونة الأخيرة اتخذت البلدان النامية بعض التدابير لتحرير التجارة سعيًا للحصول على بعض فوائد العولمة، لكن قد يؤدي الانفتاح السريع للأسواق المحلية إلى هجرة أعداد كبيرة من العاملين غير المهرة، بسبب سعيهم للحصول على فرص عمل وتحقيق مستوى معيشي أفضل من خلال الهجرة غير الشرعية.[lxii]
المحور الثالث:القمة العربية والقضية الفلسطينة:
-أولا : جامعة الدول العربية النشأة والدور:
على الرغم من أن الدعوة إلى الوحدة العربية كانت مطروحة منذ عدة قرون إلا أن فكرة إقامة تنظيم عربي واحد يجمع شمل الدول العربية لم تتبلور أو تتضح معالمها إلا خلال الحرب العالمية الثانية بفعل جملة متغيرات عربية وإقليمية ودولية.
على المستوى العربي يمكن القول إن الحقيقة العربية كانت هي حجر الأساس لهذا التطور التاريخي. فمن ناحية، كانت الحرب مناسبة لنمو الحركات الوطنية ونشاط المقاومة ضد الوجود الاستعماري الأمر الذى انعكس على استقلال عدد متزايد من الدول العربية وأنشأ الحاجة إلى إقامة نوع من التوازن بين القوى السياسية. ومن ناحية ثانية، تعززت الحاجة إلى الوحدة مع الوعى بمخاطر الحركة الصهيونية وتقاطر الهجرات اليهودية إلى فلسطين بدور لا يغفل للدولة المنتدبة عليها.. "بريطانيا"، تحقيقاً لحلم الدولة اليهودية. ومن ناحية ثالثة، أدى تزايد الاحتكاك بالغرب نتيجة البعثات التعليمية إلى الانفتاح على بعض الأفكار والتيارات السياسية التي كانت تعتمل فيه، وفى مقدمتها الفكرة القومية. ومن ناحية رابعة، بدت أن هناك درجة معقولة من التبادل التجارى وانتقال الأشخاص لا سيما بين دول المشرق العربى على نحو بدا وكأنه يوفر الأساس المادى للوحدة إضافة إلى الأساس الروحى والثقافى المبدئى.
وعلى المستوى الدولي تلت الحرب العالمية الثانية مرحلة انتقالية من مراحل تطور النظام الدولي. وفيما يخص بريطانيا تحديداً فمن المهم في تحليل موقفها من تأسيس الجامعة العربية توضيح حقيقة أن دورها كان دوراً مكملاً أو مساعداً ولم يكن دوراً منشئا أو مبادرا، سواء لأنه لا توجد دولة ما كانت ومهما بلغت درجة هيمنتها السياسية في حقبة تاريخية معينة قادرة على نفخ الروح في فكرة من العدم.
ب- الخطوات التنفيذية:
وعندما اجتمعت لجنة تحضيرية من ممثلين عن كل من سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر واليمن (بصفة مراقب) فى الفترة 25/9 إلى 7/10/1944 رجحت الاتجاه الداعى إلى وحدة الدول العربية المستقلة بما لا يمس استقلالها وسيادتها. كما استقرت على تسمية الرابطة المجسدة لهذه الوحدة بـ "جامعة الدول العربية" وآثرته على مسمى "التحالف" و "الاتحاد" كون الأول يشير إلى علاقة عارضة والثانى يعبر عن علاقة تجب الاختصاصات المتفق على تحويلها للمنظمة العربية الناشئة. وعلى ضوء ذلك تم التوصل إلى بروتوكول الإسكندرية الذى صار أول وثيقة تخص الجامعة والذى نص على المبادئ الآتية:
قيام جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة التى تقبل الانضمام إليها ويكون لها مجلس تمثل فيه الدول المشتركة فى الجامعة على قدم المساواة.
مهمة مجلس الجامعة هى:
مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء فيما بينها من اتفاقيات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها والتنسيق بين خططها السياسية تحقيقات للتعاون فيما بينها وصيانة استقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة، والنظر بصفة عامة فى شئون البلاد العربية.
قرارات المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التى يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ الطرفان إلى المجلس لفض النزاع بينهما. ففى هذه الأحوال تكون قرارات المجلس ملزمة ونافذة.
لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة كما لا يجوز اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة من دولها.
يجوز لكل دولة من الدول الأعضاء بالجامعة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام وروحها.
وأخيراً الاعتراف بسيادة واستقلال الدول المنظمة إلى الجماعة بحدودها القائمة فعلاً. كما اشتمل البروتوكول على قرار خاص بضرورة احترام استقلال لبنان وسيادته، وعلى قرار آخر باعتبار فلسطين ركناً هاماً من أركان البلاد العربية وحقوق العرب فيها لا يمكن المساس بها من غير إضرار بالسلم والاستقلال فى العالم العربى، ويجب على الدول العربية تأييد قضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة.
وأخيراً نص فى البروتوكول على أن (تشكل فوراً لجنة فرعية سياسية من أعضاء اللجنة التحضيرية المذكورة للقيام بإعداد مشروع لنظام مجلس الجامعة، ولبحث المسائل السياسية التى يمكن إبرام اتفاقيات فيها بين الدول العربية.)
ووقع على هذا البروتوكول رؤساء الوفود المشاركة فى اللجنة التحضيرية وذلك فى 7/10/1944 باستثناء السعودية واليمن اللتين وقعتاه فى 3/1/1945 و 5/2/1945 على التوالى بعد أن تم رفعه إلى كل من الملك عبد العزيز آل سعود والإمام يحيى حميد.
ولقد مثل هذه البروتوكول الوثيقة الرئيسية التى وضع على أساسها ميثاق جامعة الدول العربية وشارك فى إعداده كل من اللجنة السياسية الفرعية التى أوصى بروتوكول الإسكندرية بتشكيلها ومندوبى الدول العربية الموقعين على بروتوكول الإسكندرية، مضافاً إليهم مندوب عام كل من السعودية واليمن وحضر مندوب الأحزاب الفلسطينية كمراقب. وبعد اكتمال مشروع الميثاق كنتاج لستة عشر اجتماعا عقدتها الأطراف المذكورة بمقر وزارة الخارجية المصرية فى الفترة بين 17/2 و 3/3/1945 أقر الميثاق بقصر الزعفران بالقاهرة فى 19/3/1945 بعد إدخال بعض التنقيحات عليه. تألف ميثاق الجامعة من ديباجة وعشرين مادة، وثلاثة ملاحق خاصة الملحق الأول خاص بفلسطين وتضمن اختيار مجلس الجامعة مندوباً عنها "أى عن فلسطين" للمشاركة فى أعماله لحين حصولها على الاستقلال . والمحلق الثانى خاص بالتعاون مع الدول العربية غير المستقلة وبالتالى غير المشتركة فى مجلس الجامعة. أما الملحق الثالث والأخير فهو خاص بتعيين السيد عبد الرحمن عزام الوزير المفوض بوزارة الخارجية المصرية كأول أمين عام للجامعة لمدة عامين. وأشارت الديباجة إلى أن الدول ذات الصلة وافقت على الميثاق بهدف تدعيم العلاقات والوشائج العربية فى إطار من احترام الاستقلال والسيادة بما يحقق صالح عموم البلاد العربية.
وفى 22/3/1945 تم التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية من قبل مندوبى الدول العربية، وحضر جلسة التوقيع ممثل الأحزاب الفلسطينية واصبح يوم 22 مارس/آذار من كل عام هو يوم الاحتفال بالعيد السنوى لجامعة الدول العربية.
ثانيا:- التطور
أ-سياسيا
لوحظ مع بدء اجتماعات مجلس الجامعة عدم وجود لجنة تضطلع بالنظر فى الشئون السياسية التى تعد مجالا من مجالات أنشطة الجامعة حيث خلت المادة الثانية من الميثاق فى ذكرها اللجان الدائمة الست من لجنة تختص بالقضايا السياسية . تشكلت اللجنة السياسية فى 30/11/1946 مع احتدام الصراع الدائر فى فلسطين مع قوى الصهيونية وبروز الحاجة إلى تفعيل المشاورات السياسية بين الدول الأعضاء والتنسيق بين مواقفها فى هذا الصدد وعلى حين نص قرار التشكيل على أن تكون العضوية فى اللجنة على مستوى وزراء الخارجية فإنه بعد خمس سنوات من عمل اللجنة أى فى عام 1951 أصدر مجلس الجامعة قرارا بفتح العضوية لرؤساء الحكومات ورؤساء وفود الدول لدى الجامعة حسب مقتضى الحال . وكان أهم ما أنجزته اللجنة من أعمال: بلورة معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى، والإعداد لجدول أعمال القمم العربية ورفع تقاريرها إلى اجتماعات تلك القمم، وهو ما تحقق بالفعل فى القمم الخمس الأولى فضلا عن تنسيق المواقف العربية من بعض القضايا الدولية.
على صعيد آخر منذ انعقدت أول قمة عربية فى القاهرة عام 1964 على خلفية قيام إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن، واتخاذها قرارا بدورية انعقاد القمم العربية سنويا، وهذا المطلب يمثل مطلبا عربيا متكررا خاصة مع تنامى الدور الذى باتت تلعبه مؤسسة القمة على مستوى النظام العربى وتعدد أبعاد هذا الدور وتشعبها، وذلك بدءا من محاولتها ( أى القمة ) إنشاء مؤسسات سواء نص عليها الميثاق أو لم ينص من قبيل محكمة العدل العربية وآلية لتسوية المنازعات بين الدول العربية والوقاية منها.
اتخذت قمة القاهرة المنعقدة فى أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000 قرارا ينص على مبدأ دورية انعقاد القمة وإدراجه في ملحق مكمل للميثاق . وكان نص القرار هو التالى: يقرر القادة العرب وهم يلتقون فى هذه المرحلة الدقيقة اعتماد الآلية الخاصة بالانعقاد الدورى المنتظم للقمة العربية والتى وافق عليها مجلس جامعة الدول العربية فى دورته الأخيرة (114) وأقر صيغتها النهائية اجتماع وزراء الخارجية العرب التحضيرى لهذه القمة (...) ويعبر القادة العرب عن ثقتهم فى أن الانعقاد الدورى المنتظم للقمة العربية سوف يسهم فى دعم العمل العربى المشترك فى كافة المجالات لا سيما المجال الاقتصادى.." وكما يلاحظ فإنه مثلما كانت القضية المركزية أى قضية الصراع العربى - الإسرائيلى هى المحرك لعقد أول قمة عربية لمواجهة الأطماع الإسرائيلية فى المياه العربية، فإنها كانت هى الداعى لمأسسة القمة واعتماد دوريتها على أثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية فى 28 سبتمبر/أيلول 2000 وتصاعد سياسات القمع الإسرائيلى بشكل غير مسبوق فى محاولة لإخمداها.
ب- استراتيجيا:
ربط فيما بين المجالين الاقتصادى والاستراتيجى (أو الأمنى) من خلال معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى التى وقعت فى عام 1950، وهو ما يمثل ادراكا مبكرا لتعدد أبعاد الأمن وتجاوزها البعد الأمني أو العسكري.
فمن ناحية، نصت المعاهدة فى مادتها السادسة على تكوين مجلس للدفاع المشترك يستطيع اتخاذ قرارات ملزمة لجميع الاعضاء بأغلبية الثلثين مما عد فى حينه نقلة نوعية تعالج النقطة الخاصة باشتراط الاجماع فى قرارات الجامعة، وعدم إلزام القرارات التى تتخذ بالاغلبية لغير الموافقين عليها. وفى واقع الامر فلقد تضافرت جملة من العوامل الاقليمية والدولية التى يسرت اتخاذ هذه الخطوة المتقدمة فى إطار تطوير الجامعة اقليميا.
كان هناك العدوان الفرنسى على سوريا ولبنان عام 1945 وغياب آلية عربية للتعامل معه على نحو ألجأ الدول العربية لرفع الموضوع الى الامم المتحدة. وكانت هناك حاجة للتكتل العربى فى مواجهة الخطر الاسرائيلى بعد قيام الدولة اليهودية عام 1948. ومما له صلة بهذا الموضوع ان سوريا كانت قد تقدمت باقتراح لعقد معاهدة تحالف سياسى عسكرى بين دول الجامعة عام 1948، وأحيل اقتراحها للجنة السياسية التى شكلت بدورها لجنة خاصة عرفت باسم لجنة "التضامن الجماعى" تلقت أفكارا ومشروعات من كل من لبنان ومصر والعراق وسوريا، وكان إبرام المعاهدة من ثمارها.
ودوليا برز اتجاه عربى عبرت عنه الولايات المتحدة بالاشتراك مع كل من فرنسا وبريطانيا فى "الإعلان الثلاثى" كان هدفه اخضاع أولويات الصراع العربى-الاسرائيلى لأولويات الصراع بين المعسكرين الشرقى والغربى من خلال ادماج اسرائيل مع الدول العربية فى نظام دفاعى شرق أوسطى عرف باسم منظمة الدفاع عن الشرق الاوسط، وبالتالى كان لابد من مواجهة هذه الضغوط عبر بلورة هوية قومية استراتيجية للدول العربية يظللها ويحتويها نظام قومى له سنده الأمنى مما يميزها عن "الآخر": الاقليمى. وبالفعل جاءت معاهدة الدفاع المشترك معبرة عن الحرص على تعزيز الأمن الجماعى ، من خلال نصها على فض جميع منازعات أطرافها فيما بينهم وفى علاقاتهم مع الدول الاخرى بالطرق السلمية، وعلى عدم جواز دخول هذه الاطراف فى أى اتفاقيات دولية تناقض المعاهدة، ولا سلوكها مع سواها من الدول مسلكا يتنافى مع أغراض المعاهدة. وكما يلاحظ فان هذه المبادىء تمثل إضافة للميثاق وإغناء له بوضع تصور لآليات تمتين الامن القومى العربى.
وكما تقدم فإن المعاهدة المشار إليها أنشأت أربعة أجهزة فى مجال الامن الجماعى، هى:
مجلس الدفاع المشترك من وزراء الخارجية والدفاع فى الدول المتعاقدة، أو من ينوبون عنهم. -اللجنة العسكرية من ممثلى هيئة أركان جيوش الدول المتعاقدة لتنسيق خطط الدفاع المشترك.
الهيئة الاستشارية العسكرية من رؤساء أركان حرب جيوش الدول المتعاقدة للإشراف على اللجنة العسكرية الموحدة برئاسة الدولة التى تكون قواتها المشتركة أكثر عتادا ورجالا، ما لم توافق حكومات الدول العربية بالاجماع على اختيار دولة أخرى.
ج- اقتصادياً:
من ناحية أخرى، تطرقت المعاهدة إلى الجانب الاقتصادى، ودعت فى إطار ذلك إلى توثيق العلاقات الاقتصادية العربية وإلى تقنينها، وتبنت من تلك الزاوية فكرة تأسيس مجلس اقتصادى يكون له دور استشارى من خلال تقديم مقترحاته لحكومات الدول العربية حول ما يراه كفيلا بتعزيز التعاون الاقتصادى العربى.
وجدير بالذكر أن هذا الجانب الاقتصادى من جوانب العمل العربى المشترك مثل اهتماما رئيسيا من اهتمامات جامعة الدول العربية منذ تأسيسها عبر عنه قرار المجلس الاقتصادى والاجتماعى ذى الصلة بخصوص اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجارى العربى فى عام 1953، وتوَّجه إبرام اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية فى عام 1957، ثم صدور قرار انشاء السوق العربية المشتركة فى عام 1964.
إلا أن أهمية العمل الاقتصادى العربى المشترك ما لبثت أن تزايدت، بل يمكن القول أنها مثلت رافعة للعمل العربى المشترك فى فترات تأزم العلاقات السياسية العربية. حدث هذا عندما أصيب النظام العربى بصدع حول سياسات التسوية مع اسرائيل اعتبارا من عام 1977 حيث انعقدت قمة عمان فى عام 1980 التى تبنت مبدأ التخطيط القومى فى توجيه العمل العربى المشترك وفى تطويره، وأقرت الوثائق المتعلقة باستراتيجية العمل الاقتصادى العربى المشترك، وميثاق العمل القومى الاقتصادى، ومشروع عقد التنمية المشتركة والاتفاقية الموحدة للاستثمار.
وتكرر ذلك بعد حرب الخليج الثانية عندما اتخذت القمة التي عقدت بالقاهرة عام 1996 قرارا بتكليف المجلس الاقتصادى والاجتماعى بالاسراع بإقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. وقام المجلس بالفعل بوضع برنامج تنفيذى لإنشاء المنطقة على مدار عشر سنوات تبدأ فى 1/1/1998. كما أطلق على قمة عمان فى عام 2001 وصف "القمة الاقتصادية" وتبنت هذه القمة المبادرة المصرية الخاصة بعقد أول مؤتمر اقتصادى عربى بالقاهرة فى نوفمبر /تشرين الثانى 2001 تحت شعار "الارتقاء بأداء الاقتصادات العربية".
د- قانونيا:
يعبر المشروع الخاص بتشكيل محكمة عدل عربية عن أبرز جهود التطوير المؤسسى للجامعة العربية على المستوى القانونى. وكان ميثاق الجامعة قد نص - على ما تقدم - على جواز تعديله فى حالات ثلاث، إحداها تأسيس محكمة عدل عربية. وهى نقطة بالغة الاهمية بالنظر الى أن قيام هذه المحكمة يعالج أحد جوانب القصور الخاصة بوسائل تسوية المنازعات وفى هذا السياق، اتخذت قمة الاسكندرية فى عام 1964 قرارا بإنشاء المحكمة. وبعد ستة عشر عاما وتحديدا فى عام 1980 قرر مجلس الجامعة تشكيل لجنة لوضع النظام الاساسى للمحكمة. وبالفعل أتمت اللجنة مهمتها فى عام 1982، لكن دون أن تحدد مجالات الولاية الالزامية للمحكمة وبالتالى ونزولا على قرار قمة فاس فى عام 1982 تشكلت لجنة أخرى قامت بإعداد مشروع عرض على مجلس الجامعة بعد فترة طويلة، وتحديدا فى عام 1994. وفى عام 1995 تم تحويل المشروع إلى اللجنة القانونية الدائمة التى انكبت على صياغة مشروع متكامل، تلك أهم عناصره الاساسية:
تتشكل المحكمة من سبعة قضاة بالانتخاب السرى لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، مع تغيير ثلاثة منهم. يتم تحديدهم عن طريق القرعة كل ثلاثة أعوام.
تختص المحكمة بالفصل فى المنازعات التى تحيلها لها أطرافها، أو تنص على إحالتها لها اتفاقيات ثنائية أو متعددة، أو تصرح الدول بولاية المحكمة عليها دون حاجة لاتفاق خاص.
تحكم المحكمة وفق مبادىء ميثاق الجامعة العربية وبمقتضى قواعد القانون الدولى، كما تراعى المصادر الاخرى بموافقة الاطراف.
وينتظر المشروع اقرار الدول الاعضاء بنوده حتى يصبح سارى المفعول.
ومما له صلة بقضية تسوية المنازعات بين الدول الاعضاء فى جامعة الدول العربية، تجدر الاشارة الى مشروع اخر من مشروعات التطوير. وذلك هو الخاص بانشاء آلية للوقاية من المنازعات وإدارتها وتسويتها. وقد تقدمت تونس بهذا المشروع فى الدورة رقم 104 لمجلس الجامعة التى انعقدت بين 20 و21/9/1995. وقد صادق مجلس الجامعة على المشروع فى 21/9/1995 وكلف لجنة متخصصة بصياغته في شكله النهائي
ثالثا:- الهيكل
تتكون جامعة الدول العربية من ثلاثة فروع رئيسية أنشئت بمقتضى نصوص الميثاق، وتلك هى مجلس الجامعة واللجان الدائمة، والامانة العامة. هذا بخلاف الاجهزة التى أنشأتها معاهدة الدفاع العربى المشترك التى أُبرمت فى عام 1950، والاجهزة التى تم إنشاؤها بمقتضى قرارات صادرة عن مجلس جامعة الدول العربية. كما أنشأت الجامعة أو شجعت على إنشاء منظمات متخصصة بهدف تجميع الانشطة الاقتصادية والاجتماعية على أسس فنية وتخليصها، بدرجة أو بأخرى ، من التعقيدات السياسية. هذا بخلاف المجالس الوزارية المعنية بشئون الصحة والسياحة والأمن (الداخلية) وفيما يلى إشارة للأجهزة الثلاثة الرئيسية التى نص الميثاق على إنشائها:
أ-مجلس الجامعة :
عد هذا المجلس هو أعلى سلطة داخل الجامعة، ويتألف من ممثلى جميع الدول الاعضاء بما فيهم ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، ويكون لكل منهم صوت واحد مهما بلغ عدد الممثلين، علما بأن من حق الدول الأعضاء أن تحدد مستوى التمثيل الذى قد يرقى إلى مستوى رؤسائها أو يقل عنه، دون أن يغير ذلك من طبيعة المجلس. ويختص المجلس بحسب المادة الثالثة من الميثاق بتحقيق الاغراض الاتية:
مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الاعضاء من اتفاقيات فى مختلف المجالات.
اتخاذ التدابير اللازمة لدفع العدوان الفعلى أو المحتمل الذى قد يقع على إحدى الدول الاعضاء .
فض المنازعات بين الدول الاعضاء بالطرق السلمية مثل الوساطة والتحكيم.
تحديد وسائل التعاون مع الهيئات الدولية وبما يحفظ السلم والامن الدوليين.
تعيين الامين العام للجامعة.
تحديد أنصبة الدول الاعضاء فى ميزانية الجامعة وإقرارها.
وضع النظام الداخلى الخاص به، وباللجان الدائمة، وبالامانة العامة
ب - اللجان الدائمة :
ينص الميثاق فى المادة الرابعة على تشكيل عدد من اللجان الدائمة المعنية بمختلف مجالات التعاون فيما بين الدول الأعضاء ، وهى اللجان التى ظهرت فيما بعد إلى استحداث المزيد منها لمواجهة مستجدات العلاقات العربية-العربية كما كان الحال بالنسبة اللجنة السياسية التى أنشأتها الممارسة العملية ولم تنشأ بنص صريح من الميثاق. ويجرى التمثيل فى كل من اللجان الدائمة بمندوب واحد عن كل دولة ، ويكون له صوت واحد.
ويعين مجلس الجامعة رئيس كل لجنة لمدة عامين قابلين للتجديد. وتصدر قرارات اللجان بأغلبية أصوات الدول الاعضاء علما بأن اجتماعاتها لا تصح إلا بحضور اغلبية الدول الاعضاء منها وتتمتع هذه اللجان بحق تشكيل لجان فرعية تعنى بالشئون الفنية المتخصصة ، كما يحق لها أن توصى بدعوة خبراء من الدول الأعضاء فى الجامعة للإستفادة بخبراتهم عند الحاجة وفى مجال تقويم أداء هذه اللجان ، يمكن الاشارة إلى دورها فى إنجاز العديد من مشروعات الاتفاقيات التى أبرمتها الدول الأعضاء والتى تدخل فيها بخلاف اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى ، واتفاقية الاتحاد العربى ، واتفاقية تسليم المجرمين وبروتوكول معاملة الفلسطينيين فى الدول العربية.
ج - الأمانة العامة
تنظم المادة الثانية عشرة من الميثاق وضع الأمانة العامة للجامعة التى أشير إلى أن يتم تشكيلها من أمين عام وأمناء مساعدين وعدد من الموظفين ، وأن مجلس الجامعة هو الذى يعين الأمين العام بأغلبية الثلثين ولمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، فيما يتولى الأمين العام- بموافقة المجلس-تعيين الأمناء المساعدين والموظفين الرئيسيين فى الجامعة. ولقد تعاقب على منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية ستة أمناء هم السادة : عبد الرحمن عزام ، ومحمد عبد الخالق حسونة ، ومحمود رياض ، والشاذلى القليبى ، ود. عصمت عبد المجيد ، وعمرو موسى و الدكتور نبيل العربي الذى عين أميناً عاماً فى عام 2011. ويحدد النظام الأساسى مهام الأمين العام على النحو التالى :
المهام الإدارية والفنية ، وتشمل متابعة تنفيذ قرارات مجلس الجامعة ولجانها ، وتحديد تاريخ دورات انعقاد مجلس الجامعة، و توجيه الدعوة لعقد اجتماعات مجلس الجامعة واللجان الدائمة ، وتنظيم أعمال السكرتارية ذات الصلة ، وإعداد ميزانية الجامعة.
المهام السياسية ، وتتضمن حق حضور اجتماعات مجلس الجامعة والمشاركة فى مناقشة الموضوعات المعروضة عليه ، وحق تقديم تقارير أو بيانات شفوية ومكتوبة عن أية مسألة يبحثها المجلس ، وحق توجيه نظر المجلس أو الدول الأعضاء فى الجامعة إلى مسألة يقدر الأمين العام أهميتها ، وحق تمثيل الجامعة لدى المنظمات الدولية ، وحق التحدث باسم الجامعة والتوجه للرأى العام بالبيانات اللازمة.
والجدير بالذكر أن الشق السياسى من عمل الأمين العام قد تطور تطورا كبيرا مع اتساع أنشطة الجامعة وتعدد أبعاد تلك الانشطة ومجالاتها .
رابعا:- الدور
تمكنت جامعة الدول العربية على امتداد تاريخها من القيام بأدوار أربعة رئيسية يمكن الإشارة إليها بإيجاز على النحو التالى :
أ - الإسهام فى حصول الدول العربية على استقلالها ، حيث برز دور الجامعة على سبيل المثال فى مجال دعم جهود التحرر فى دول مثل الجزائر ، وسلطنة عمان ، واليمن، والسودان. ومثل هذا الدور كان هو السبب المباشر فى اتساع حجم عضوية الجامعة على ما تقدم ، لتشمل اثنتين وعشرين دولة عربية على حين لم يتعد عدد الدول الموقعة على الميثاق التأسيسى سبع دول.
ب - المشاركة فى تسوية بعض المنازعات العربية - العربية ، ويلاحظ أن قدرة الجامعة فى هذا المجال قد ارتبطت بدرجة قبول الأطراف المتنازعة لدورها ، وهى نقطة تبدو أهميتها على ضوء ما هو معروف من كون سلطة الجامعة لا تعلو فوق سلطات الأعضاء. كما أنشأت الجامعة قوة أمن مؤقتة بمناسبة النزاع الكويتى - العراقى عام 1961، وطورت دبلوماسية مؤتمرات القمة العربية.
ج - تشجيع التعاون العربى - العربى عبر مجموعة المنظمات المتخصصة التى تشكلت على مختلف المستويات داخل إطار الجامعة وخارجه . ففى إطار الجامعة ، تم إنشاء منظمات اتسع نشاطها ليشمل مسائل العمالة ، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، والشئون العلمية والثقافية ، ووسائل الاتصال والاعلام ، ولقد نهضت بعض المنظمات مثل منظمة العمل العربية ، والصندوق العربى للإنماء الاقتصادى والاجتماعى. والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، واتحاد إذاعات الدول العربية ، والاتحاد العربى للمواصلات السلكية واللاسلكية ، بالتعبير عن تلك الاهتمامات والنشاطات كافة. وخارج إطار الجامعة نشط العمل النقابى العربى بجهد لا يغفل من الجامعة وبتنسيق مستمر بين أجهزتها؛ ومن هنا جاء قيام اتحادات المحامين والاطباء والصحفيين والحقوقيين والعمال العرب... الخ.
د- تمثيل الدول العربية فى مختلف المحافل والمنظمات الدولية مثل الامم المتحدة ومنظماتها المتخصصة ومنظمة الوحدة الافريقية، والتعاون مع هذه الأخيرة على تكوين طائفة من المؤسسات المشتركة مثل المصرف العربى للتنمية فى افريقيا، والصندوق العربى للقروض، هذا إلى جانب دور الجامعة العربية كطرف فى الحوار مع أوروبا فى حقبة السبعينيات.[lxiii]
القمة العربية في الجزائر: 01/02 نوفمبر 2022
كانت قمة الجزائر هادفة في مشروعها الخاص بالقضية الفلسطسنة وتجلى ذلك من عمق العلاقة بين الجزائر وفلسطين من خلال جمع الفصائل الفلسطينية وتوحيد جهودها لمقاومة المحتل الصهيوني، وعززت الجزائر هذه المكاسب من خلال القمة العربية المنعقدة في الجزائر يوم الفاتح من نوفمبر والتي كانت القضية الفلسطسنية أهم محاورها واعادة ترتيب البيت العربي تحت شعار لم الشمل وقد تمخضت عن هذه القمة عدة قرارات هي كالتالي:
أولا: فيما يخص القضية الفلسطينية.
- التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على خطوط 4 حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948.
- التأكيد على تمسكنا بمبادرة السلام العربية لعام 2002 بكافة عناصرها وأولوياتها، والتزامنا بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية، بما فيها الجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية، وحل الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
- التشديد على ضرورة مواصلة الجهود والمساعي الرامية لحماية مدينة القدس المحتلة ومقدساتها، والدفاع عنها في وجه محاولات الاحتلال المرفوضة والمدانة لتغيير ديمغرافيتها وهويتها العربية الإسلامية والمسيحية والوضع التاريخي والقانوني القائم فيها، بما في ذلك عبر دعم الوصاية الهاشمية التاريخية لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية وإدارة أوقاف القدس وشؤون الأقصى المبارك التابعة لوزارة الأوقاف والمقدسات الإسلامية الأردنية بصفتها صاحبة الصلاحية الحصرية وكذا دور لجنة القدس وبيت مال القدس في الدفاع عن مدينة القدس ودعم صمود أهلها.
- المطالبة برفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة وإدانة استخدام القوة من قبل السلطة القائمة بالاحتلال ضد الفلسطينيين، وجميع الممارسات الهمجية بما فيها الاغتيالات والاعتقالات التعسفية والمطالبة بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين، خاصة الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن.
- التأكيد على تبني ودعم توجه دولة فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ودعوة الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين إلى القيام بذلك، مع ضرورة دعم الجهود والمساعي القانونية الفلسطينية الرامية إلى محاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها ولا يزال في حق الشعب الفلسطيني.
- الإشادة بالجهود العربية المبذولة في سبيل توحيد الصف الفلسطيني والترحيب بتوقيع الأشقاء الفلسطينيين على "إعلان الجزائر" المنبثق عن "مؤتمر لمّ الشمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية"، المنعقد بالجزائر بتاريخ 11-13 أكتوبر 2022، مع التأكيد على ضرورة توحيد جهود الدول العربية للتسريع في تحقيق هذا الهدف النبيل، لا سيما عبر مرافقة الأشقاء الفلسطينيين نحو تجسيد الخطوات المتفق عليها ضمن الإعلان المشار إليه.
ثانيا: فيما يخص الأوضاع في الوطن العربي.
- العمل على تعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والطاقوية والمائية والبيئية، والمساهمة في حل وإنهاء الأزمات التي تمر بها بعض الدول العربية، بما يحفظ وحدة الدول الأعضاء وسلامة أراضيها وسيادتها على مواردها الطبيعية ويلبي تطلعات شعوبها في العيش الآمن الكريم.
- رفض التدخلات الخارجية بجميع أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية والتمسك بمبدأ الحلول العربية للمشاكل العربية عبر تقوية دور جامعة الدول العربية في الوقاية من الأزمات وحلها بالطرق السلمية، والعمل على تعزيز العلاقات العربية-العربية. في هذا الإطار، نثمن المساعي والجهود التي تبذلها العديد من الدول العربية، لاسيما دولة الكويت، بهدف تحقيق التضامن العربي والخليجي.
- الإعراب عن التضامن الكامل مع الشعب الليبي ودعم الجهود الهادفة لإنهاء الأزمة الليبية من خلال حل ليبي-ليبي يحفظ وحدة وسيادة ليبيا ويصون أمنها وأمن جوارها، ويحقق طموحات شعبها في الوصول إلى تنظيم الانتخابات في أسرع وقت ممكن لتحقيق الاستقرار السياسي الدائم.
- التأكيد على دعم الحكومة الشرعية اليمنية ومباركة تشكيل مجلس القيادة الرئاسي ودعم الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية وفق المرجعيات المعتمدة مع التشديد على ضرورة تجديد الهدنة الإنسانية كخطوة أساسية نحو هذا المسار الهادف إلى تحقيق تسوية سياسية شاملة تضمن وحدة اليمن وسيادته واستقراره وسلامة أراضيه وأمن دول الخليج العربي ورفض جميع أشكال التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية.
- قيام الدول العربية بدور جماعي قيادي للمساهمة في جهود التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية ومعالجة كل تبعاتها السياسية والأمنية والإنسانية والاقتصادية، بما يضمن وحدة سورية وسيادتها ويحقق طموحات شعبها ويعيد لها أمنها واستقرارها ومكانتها إقليميا ودوليا.
- الترحيب بتنشيط الحياة الدستورية في العراق بما في ذلك تشكيل الحكومة والاشادة بجهودها الرامية إلى تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية وتجسيد آمال وتطلعات الشعب العراقي، مع تثمين النجاحات التي حققها العراق في دحر التنظيمات الإرهابية والاشادة بتضحيات شعبه في الدفاع عن سيادة البلاد وأمنها.
- تجديد التضامن مع الجمهورية اللبنانية للحفاظ على أمنها واستقرارها ودعم الخطوات التي اتخذتها لبسط سيادتها على أقاليمها البرية والبحرية والإعراب عن التطلع لأن تقوم لبنان بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة وأن يقوم مجلس النواب بانتخاب رئيس جديد للبلاد.
- تجديد الدعم لجمهورية الصومال الفيدرالية من أجل توطيد دعائم الأمن والاستقرار عبر مساهمة الدول العربية في تعزيز القدرات الوطنية الصومالية في مجال مكافحة الإرهاب وتمكين هذا البلد الشقيق من الاستجابة للتحديات التي يواجهها في المرحلة الراهنة، لاسيما من جراء أزمة الجفاف الحادة.
- دعم الجهود المتواصلة لتحقيق حل سياسي بين جيبوتي وإريتريا فيما يتعلق بالخلاف الحدودي وموضوع الأسرى الجيبوتيين.
- التأكيد على ضرورة المساهمة في دعم الدول العربية التي مرت أو تمر بظروف سياسية وأمنية واقتصادية صعبة أو تلك التي تواجه حالات استثنائية من جراء الكوارث الطبيعية، من خلال تعبئة الإمكانيات المتاحة وفق مختلف الصيغ المطروحة ثنائيا وعربيا وإقليميا ودوليا.
- التأكيد على ضرورة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط وفقا للمرجعيات المتفق عليها، ودعوة جميع الأطراف المعنية إلى الانضمام وتنفيذ معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي تظل حجر الأساس للنظام الدولي لمنع انتشار هذه الأسلحة.
ثالثا: فيما يخص تعزيز وعصرنة العمل العربي المشترك.
- الالتزام بالمضي قدما في مسار تعزيز وعصرنة العمل العربي المشترك والرقي به إلى مستوى تطلعات وطموحات الشعوب العربية، وفق نهج جديد يؤازر الأطر التقليدية ليضع في صلب أولوياته هموم وانشغالات المواطن العربي.
- تثمين المقترحات البناءة التي تقدم بها سيادة رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، السيد عبد المجيد تبون، والرامية إلى تفعيل دور جامعة الدول العربية في الوقاية من النزاعات وحلها وتكريس البعد الشعبي وتعزيز مكانة الشباب والابتكار في العمل العربي المشترك.
- التأكيد على ضرورة إطلاق حركية تفاعلية بين المؤسسات العربية الرسمية وفعاليات المجتمع المدني بجميع أطيافه وقواه الحية، من خلال خلق فضاءات لتبادل الأفكار والنقاش المثمر والحوار البناء بهدف توحيد الجهود لرفع التحديات المطروحة بمشاركة الجميع.
- الالتزام بمضاعفة الجهود لتجسيد مشروع التكامل الاقتصادي العربي وفق رؤية شاملة تكفل الاستغلال الأمثل لمقومات الاقتصادات العربية وللفرص الثمينة التي تتيحها، بهدف التفعيل الكامل لمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تمهيدا لإقامة الاتحاد الجمركي العربي.
- التأكيد على أهمية تظافر الجهود من أجل تعزيز القدرات العربية الجماعية في مجال الاستجابة للتحديات المطروحة على الأمن الغذائي والصحي والطاقوي ومواجهة التغيرات المناخية، مع التنويه بضرورة تطوير آليات التعاون لمأسسة العمل العربي في هذه المجالات.
رابعا: فيما يخص العلاقات مع دول الجوار والشراكات.
- التأكيد على ضرورة بناء علاقات سليمة ومتوازنة بين المجموعة العربية والمجتمع الدولي، بما فيه محيطها الإسلامي والافريقي والأورو-متوسطي، على أسس احترام قواعد حسن الجوار والثقة والتعاون المثمر والالتزام المتبادل بالمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
- التأكيد على أهمية منتديات التعاون والشراكة التي تجمع جامعة الدول العربية بمختلف الشركاء الدوليين والإقليميين باعتبارها فضاءات هامة للتشاور السياسي ومد جسور التواصل وبناء شراكات متوازنة قائمة على الاحترام والنفع المتبادلين.
خامسا: فيما يخص الأوضاع الدولية.
- التأكيد على أن التوترات المتصاعدة على الساحة الدولية تسلط الضوء أكثر من أي وقت مضى على الاختلالات الهيكلية في آليات الحوكمة العالمية وعلى الحاجة الملحة لمعالجتها ضمن مقاربة تكفل التكافؤ والمساواة بين جميع الدول وتضع حدا لتهميش الدول النامية.
- التأكيد على ضرورة مشاركة الدول العربية في صياغة معالم المنظومة الدولية الجديدة لعالم ما بعد وباء كورونا والحرب في أوكرانيا، كمجموعة منسجمة وموحدة وكطرف فاعل لا تعوزه الإرادة والإمكانيات والكفاءات لتقديم مساهمة فعلية وإيجابية في هذا المجال.
- الالتزام بمبادئ عدم الانحياز وبالموقف العربي المشترك من الحرب في أوكرانيا الذي يقوم على نبذ استعمال القوة والسعي لتفعيل خيار السلام عبر الانخراط الفعلي لمجموعة الاتصال الوزارية العربية (التي تضم الجزائر، مصر، الأردن، الإمارات العربية المتحدة، العراق والسودان والأمين العام لجامعة الدول العربية) في الجهود الدولية الرامية لبلورة حل سياسي للأزمة يتوافق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ويراعي الشواغل الأمنية للأطراف المعنية، مع رفض تسييس المنظمات الدولية. والتنويه في هذا السياق بالمساعي التي قامت بها الدول العربية الأخرى مثل المملكة العربية السعودية.
- تثمين السياسة المتوازنة التي انتهجها تحالف "أوبيك + " من أجل ضمان استقرار الأسواق العالمية للطاقة واستدامة الاستثمارات في هذا القطاع الحساس ضمن مقاربة اقتصادية تضمن حماية مصالح الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
- التأكيد على ضرورة توحيد الجهود لمكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله وتجفيف منابع تمويله والعمل على تعبئة المجتمع الدولي ضمن مقاربة متكاملة الأبعاد تقوم على الالتزام بقواعد القانون الدولي وقرارات ا لأمم المتحدة ذات الصلة، لا سيما فيما يتعلق بمطالبة الشركاء بعدم السماح باستخدام أراضيهم كملاذ أو منصة للتحريض أو لدعم أعمال إرهابية ضد دول أخرى.
- الترحيب بالتحركات والمبادرات الحميدة التي قامت وتقوم بها العديد من الدول العربية من أجل الحد من انتشار الاسلاموفوبيا وتخفيف حدة التوترات وترقية قيم التسامح واحترام الآخر والحوار بين الأديان والثقافات والحضارات وإعلاء قيم العيش معا في سلام التي كرستها الأمم المتحدة بمبادرة من الجزائر. والترحيب في هذا السياق بالزيارة التاريخية لقداسة بابا الفاتيكان إلى مملكة البحرين، ومشاركته وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين في "ملتقى البحرين ...حوار الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني".
- تثمين الدور الهام الذي تقوم به الدول العربية في معالجة التحديات الكبرى التي تواجه البشرية على غرار التغيرات المناخية والإشادة في هذا الصدد بمبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي أطلقتها المملكة العربية السعودية.
- التأكيد على أهمية اضطلاع الدول العربية بدور بارز في تنظيم التظاهرات الدولية الكبرى التي تشكل محطات رئيسية ومهيكلة للعلاقات الدولية، وفي هذا الصدد نعرب عن:
دعمنا لجمهورية مصر العربية التي تستعد لاحتضان الدورة (27) لمؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول تغير المناخ. مساندتنا لدولة قطر التي تتأهب لاحتضان نهائيات بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 وثقتنا التامة في قدرتها على تنظيم طبعة متميزة لهذه التظاهرة العالمية ورفضنا لحملات التشويه والتشكيك المغرضة التي تطالها.
دعمنا لاستضافة المملكة المغربية للمنتدى العالمي التاسع لتحالف الأمم المتحدة للحضارات، يومي 22-23 نوفمبر 2022 بمدينة فاس.
دعمنا لدولة الإمارات العربية المتحدة في التحضير لاحتضان الدورة (28) لمؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول تغير المناخ.
تأييدنا لترشيح مدينة الرياض، المملكة العربية السعودية، لاستضافة معرض إكسبو 2030.[lxiv]
المحور الرابع: أزمة فريروس كورونا (كوفيد 19)
مرض فيروس كورونا (كوفيد-19)
مرض فيروس كورونا (كوفيد-19) هو مرض معدٍ يسببه فيروس كورونا-سارس-2.
وتظهر أعراض تنفسية تتراوح بين الخفيفة والمتوسطة على معظم من يصابون بعدوى الفيروس ويتعافون دون الحاجة إلى تدخل علاجي خاص. غير أن بعض من يصابون بالعدوى تظهر عليهم أعراض شديدة ويحتاجون إلى العناية الطبية. والأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالأعراض الوخيمة للمرض هم المصابون بأمراض كامنة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية وداء السكري والأمراض التنفسية المزمنة والسرطان وغير ذلك من الأمراض. غير أن أي شخص معرّض للإصابة بمرض وخيم والوفاة بسبب كوفيد-19، أياً كان عمره.
وتظل الوسيلة الأفضل للوقاية من انتقال عدوى كوفيد-19 وإبطاء وتيرة انتقالها هي الإلمام بخصائص المرض وطريقة انتشار الفيروس. وتشمل التدابير الاحتياطية لحماية نفسك والآخرين من العدوى: التباعد عن الآخرين مسافة متر واحد على الأقل، وارتداء كمامة مثبتة جيداً، والمواظبة على غسل اليدين أو فركهما بمطهر كحولي. وكذلك، خذ اللقاح عندما يحين دورك واتبع تعليمات السلطات المحلية.
وينتشر الفيروس من الجسيمات السائلة الصغيرة التي تنطلق من فم الشخص المصاب بالعدوى أو من أنفه عندما يسعل أو يعطس أو يتكلم أو يغني أو يتنفس. ويتراوح حجم هذه الجسيمات من القطيرات التنفسية الكبيرة إلى الرذاذ المتناهي الصغر. لذلك من المهم ممارسة الآداب التنفسية عن طريق السعال في ثنية المرفق مثلاً، والبقاء في المنزل والعزل الذاتي عندما تكون متوعكاً إلى أن تتعافى بالكامل[lxv].
أثار أزمة كوفيد على التعليم:
أحصت منظمة الأمم المتحدة للتربية، والعلم، والثقافة، "اليونسكو"، أن أكثر من 1.5 مليار طالب في 165 دولة اضطروا للانقطاع عن الذهاب للمدارس والجامعات جراء جائحة فيروس كورونا المستجد. وأجبرت الجائحة الهيئات الأكاديمية حول العالم على اكتشاف أنماط جديدة للتعلم والتعليم، ومنها التعليم الإلكتروني، والتعليم عن بعد.
وتعتبر هذه التجربة بمثابة تحدي للطلاب والمعلمين، الذين صاروا مضطرين للتعامل مع الصعوبات العاطفية، والجسدية، والاقتصادية، التي فرضتها الجائحة، مع التزامهم بدورهم للحد من انتشار الفيروس.
ويبقى المستقبل غير واضح أمام الجميع، وخاصة لملايين الطلاب الذين تخرجوا هذه السنة، فيما ينتظرهم عالم شُلت حركته اقتصادياً إثر الجائحة.
وضمن سلسلة جائحة فيروس كورونا والتعليم العالي، تتواصل "الأمم المتحدة للأثر الأكاديمي" مع الطلاب، والمعلمين، والباحثين، في مختلف أنحاء العالم لمعرفة أثر كورونا المستجد عليهم، وكيفية تأقلمهم مع التغيرات التي طرأت على العالم. وتسلط السلسلة الضوء أيضاً على الدروس المستنبطة والنتائج الإيجابية المحتملة للحظر العالمي على التعاليم العالي.
الدكتور مايكل كروجر هو مدير برنامج إدارة التعليم الدولي في جامعة لودفيغسبورغ للتربية (ألمانيا) وجامعة حلوان (مصر). يوفر برنامج الماجستير الدولي الذي تم تطويره بشكل مشترك من قبل الجامعتين تدريبًا إداريًا وقياديًا للمهنيين الشباب من جميع أنحاء العالم الذين يتطلعون إلى العمل في المؤسسات التعليمية.
البرنامج عبارة عن مزيج من الحضور الشخصي وعبر الإنترنت، لذلك فإن أعضاء هيئة التدريس والطلاب، الموجودين في 12 منطقة زمنية مختلفة ، لديهم خبرة في الدراسة عن بعد. ومع ذلك ، أشار الدكتور كروجر إلى أن جائحة COVID-19 لم تؤثر فقط على روتين التعلم للطلاب، ولكن أيضًا على حياتهم الشخصية، بما في ذلك فقدان الوظائف ومسؤوليات الأسرة المتزايدة وعدم القدرة على السفر والشعور بالعزلة والوحدة.
يقول الدكتور كروجر أن المرونة هي مفتاح معالجة هذه الصعوبات، يبدأ يومه مع الزملاء من خلال بالتحقق من تواجد الطلاب وفهم وضعهم واستخدام برامج مؤتمرات الفيديو وتطبيقات المراسلة ولوحات النشرات للبقاء على اتصال معهم. كما سلّط الضوء على الدور الهام الذي يلعبه المعلمون في هذه الاوقات العصيبة والتكيّف فيما يتعلق بمكافحة المعلومات الخاطئة، وتشجيع الطلاب على التفكير فيما يحدث، وتقديم الدعم العاطفي لهم.
على الرغم من تعقيد ترتيبات التعليم والتعلم الجديدة، يفاجأ الدكتور كروجر بمدى تركيز الجميع والكم الهائل الذي تم تحقيقه. يعتقد أن الدروس المستفادة من هذه التجارب سيكون لها تأثير دائم على التدريس وتساعد على تعزيز النظام التعليمي.[lxvi]
أثار أزمة كوفيد على الاقتصاد:
أحدثت جائحة كورونا موجات من الصدمات التي اجتاحت الاقتصاد العالمي، وتسببت في أكبر أزمة اقتصادية عالمية فيما يزيد على قرن من الزمان. وأدت هذه الأزمة إلى زيادة حادة في عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها. وتشير الشواهد الأولية إلى أن التعافي من هذه الأزمة سيكون متفاوتاً بقدر تفاوت آثارها الاقتصادية الأولية، إذ تحتاج الاقتصادات الصاعدة والفئات المحرومة اقتصادياً وقتا أطول كثيرا لتعويض ما نجم عن الجائحة من خسائر فقدان الدخل وسبل كسب العيش.i
وعلى عكس العديد من الأزمات السابقة، فقد قوبل ظهور جائحة كورونا باستجابة كبيرة وحاسمة على صعيد السياسات الاقتصادية كُللت بالنجاح بصفة عامة في التخفيف من حدة أسوأ التكاليف البشرية للجائحة على المدى القصير. ومع ذلك، أوجدت الاستجابة لهذه الحالة الطارئة أيضاً مخاطر جديدة - مثل الزيادة الهائلة في مستويات الدين العام والخاص في الاقتصاد العالمي - التي قد تشكل خطراً على تحقيق تعافٍ منصف من الأزمة ما لم يتم التصدي لها على نحو حاسم.
تفاقم عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها
كانت الآثار الاقتصادية للجائحة بالغة الحدة في الاقتصادات الصاعدة حيث كشفت حالات فقدان الدخل الناجمة عنها عن أوجه الهشاشة الاقتصادية التي كانت قائمة من قبل، بل زادت من تفاقمها. فمع انتشار الجائحة في عام 2020، أصبح من الواضح أن جانباً كبيراً من القطاع العائلي وقطاع الشركات لم يكن مؤهلاً لتحمل صدمة تصيب الدخل من حيث طول أمدها واتساع نطاقها. وتشير الدراسات المستندة إلى بيانات ما قبل الأزمة، على سبيل المثال، إلى أن أكثر من 50% من الأسر في الاقتصادات الصاعدة والمتقدمة لم تتمكن من الحفاظ على مستوى الاستهلاك الأساسي نفسه لأكثر من ثلاثة أشهر في حالة فقدان الدخل.ii وبالمثل، لم تغط الاحتياطيات النقدية لدى الشركات متوسطة الحجم سوى أقل من 55 يوماً من النفقات.iii وكان جزء كبير من القطاع العائلي وقطاع الشركات في الاقتصادات الصاعدة مثقلاً بالفعل بمستويات مرتفعة من الديون غير المستدامة قبل وقوع الأزمة، وواجه صعوبة في خدمة تلك الديون عندما أدت الجائحة وما ارتبط بها من تدابير الصحة العامة إلى انخفاض حاد في دخل الأسر وإيرادات الشركات.
لقد أثرت الأزمة تأثيراً حاداً على معدلات الفقر وعدم المساواة على مستوى العالم، حيث ارتفع معدل الفقر العالمي لأول مرة منذ جيل كامل، وأدت حالات فقدان الدخل غير المتناسبة فيما بين الفئات المحرومة إلى ارتفاع كبير في عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها. ووفقاً لبيانات المسح، في عام 2020، سجل معدل البطالة المؤقتة في 70% من جميع البلدان نسبة أعلى بين العمال الذين لم يتموا إلا مرحلة التعليم الابتدائي.iv أما حالات فقدان الدخل فكانت أيضاً أكبر بين الشباب والنساء وأصحاب المهن الحرة والعمالة الموسمية ذوي المستويات التعليمية النظامية الأقل.v وقد تأثرت النساء، على وجه الخصوص، بفقدان الدخل والعمل لأنهن كن على الأرجح يعملن في قطاعات تضررت بقدر أكبر من جراء تدابير الإغلاق العام والتباعد الاجتماعي.vi
وتبرز أنماط مماثلة فيما بين الشركات. فقد كانت الشركات الأصغر حجماً ومنشآت الأعمال غير الرسمية والمشروعات التي ليس لديها سوى سبل وصول محدودة إلى سوق الائتمان الرسمي أكثر تضرراً من حالات فقدان الدخل الناجمة عن جائحة كورونا. أما الشركات الأكبر حجماً فقد خاضت غمار الأزمة وهي تملك القدرة على تغطية نفقاتها لمدة تصل إلى 65 يوماً، مقارنة بمدة 59 يوماً للشركات متوسطة الحجم و53 يوماً لمنشآت الأعمال الصغيرة و50 يوماً لمنشآت الأعمال متناهية الصغر. بالإضافة إلى ذلك، شكلت منشآت الأعمال متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة نسبة كبيرة للغاية في القطاعات الأكثر تضرراً من الأزمة، مثل خدمات الإقامة والطعام، وتجارة التجزئة، والخدمات الشخصية.
استجابات الحكومات للأزمة على المدى القصير
كانت استجابات الحكومات للجائحة على المدى القصير سريعة وشاملة على نحو استثنائي. فقد تبنت الحكومات العديد من أدوات السياسات التي كانت إما غير مسبوقة على الإطلاق أو لم يتم استخدامها من قبل على هذا النطاق في الاقتصادات الصاعدة. ومن الأمثلة على ذلك تدابير الدعم الكبير المباشر للدخل، وتأجيل سداد الديون، وبرامج شراء الأصول التي نفذتها البنوك المركزية. وتباينت هذه البرامج تبايناً كبيراً من حيث الحجم والنطاق (الشكل 1-1)، ويرجع ذلك في جانب منه إلى أن العديد من البلدان منخفضة الدخل واجهت مصاعب جمة لتعبئة الموارد نظراً لمحدودية القدرة على الوصول إلى أسواق الائتمان وارتفاع مستويات الدين الحكومي قبل وقوع الأزمة. ونتيجة لذلك، كان حجم الاستجابة للأزمة على صعيد المالية العامة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي كبيراً على نحو متماثل تقريباً في البلدان مرتفعة الدخل، وضعيفاً بشكل متماثل، أو لم توجد أي استجابة، في البلدان منخفضة الدخل. وفي البلدان متوسطة الدخل، جاءت الاستجابة على صعيد المالية العامة متباينة إلى حد بعيد، مما عكس اختلافات ملحوظة في قدرة الحكومات على الإنفاق على برامج الدعم ورغبتها في ذلك.[lxvii]
المحور الخامس: الجريمة المنظمة:
تمهيد: تعتبر الجريمة المنظمة ظاهرة متغيرة ومرنة. أن العديد من فوائد العولمة مثل سهولة وسرعة الاتصال وحركة الأموال والسفر الدولي قد أتاحت فرصا للجماعات الإجرامية المنظمة عبر الوطنية لكي تزدهر وتنوّع وتتوسع في أنشطتها. وقد تطورت الجماعات الاجرامية التقليدية التي تعتمد على وجودها الجغرافي أو تم استبدالها جزئياً بشبكات أصغر حجماً وأكثر مرونة ذو فروع تحت سلطات قضائية مختلفة. من الممكن أن يتواجد الضحايا والمشتبه فيهم والجماعات الإجرامية المنظمة وعائدات الجريمة في العديد من الدول خلال فترة التحقيق.
وعلاوة على ذلك، تؤثر الجريمة المنظمة على جميع الدول سواء كانت بلاد عرض أو عبور أو طلب. وعلى هذا النحو، تشكل الجريمة المنظمة الحديثة تحدياً عالمياً يجب مواجهته من خلال استجابة عالمية متضافرة.[lxviii]
1-تعريف الجريمة المنظمة:
فإن الجريمة المنظمة هي مفهوم معروف بصعوبة تعريفه. وعلى الرغم من وجود وعي بأن هذه الظاهرة موجودة في كل مكان، إلا أن هناك أشكاًل متعددة من الجريمة، يتم تمكينها من قبل جهات فاعلة مختلفة تتقلب وتتكيف مع بيئات مختلفة. في عام 2003 ،دخلت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية " UNTOC "وهي الأداة الدولية الرئيسية لمكافحة الجريمة المنظمة، حيز التنفيذ، مما أجبر الدول الأعضاء على النظر في تعريف الجريمة المنظمة. ونظرا لعدم القدرة على التوصل الى توافق في الأراء، لم تقدم اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية في الواقع تعريفا للجريمة المنظمة ولكنها بالأحرى تقدم توضيحا لثابتين في السياق الواسع للجريمة المنظمة.
ويوفر المصطلحان "جماعة إجرامية منظمة" و"جريمة خطيرة"، الموضحين في الاتفاقية، الشروط الأساسية لنشاط ما ليتم اعتباره جريمة منظمة والمرونة اللازمة لمعالجة أوسع نطاق ممكن من المخاوف. على سبيل المثال، قد تشير جماعة اجرامية منظمة الى مجموعة واسعة من الجمعيات الاجرامية، بداية من الهياكل الهرمية الى الشبكات غير المترابطة وبالمثل، فان تركيزالاتفاقية على مصطلح "جريمة خطيرة" يضمن الحفاظ على التمييز بين الاجرام المنخفض المستوى والنشاط الاجرامي المنظم، علاوة على ذلك تتناول الاتفاقية على وجه التحديد الأنشطة التي يحركها البحث ، مما يسمح للسياسات والاستجابات بتمييز الجريمة المنظمة عن الأعمال ذات الدوافع السياسية فقط، مثل الارهاب .
في سياق مؤشر الجريمة المنظمة العالمي: تعرف الجريمة المنظمة بأنها أ،شطة غير مشروعة ، تقوم بها جماعات أو شبكات تعمل بشكل متضافر من خلال الانخراط في أعمال عنف أو فساد أ, أنشطة ذات صلة من أجل الحصول بشكل مباشر أ, غير مباشر على منفعة مالية أو مادية، ويمكن تنفيذ مثل هذه الأنشطة داخل الدولة وعبر الحدود الوطنية[lxix] .
2-خصائص الجريمة المنظمة:
أولا: من حيث الهيكل :
-عدد الأعضاء: تشترط العديد من التشريعات عددا معينا من الاشخاص الضاعلين في العمليات الاجرامية لايقل عن ثلاثة، حتى توصف بالجريمة المنظمة، وهذا ماأخذ به القانون لايطالي، وقانون لاتحاد الأوربي.
-التنظيم:جماعات الجريمة المنظمة تقوم على تنظيم هرمي متدرج ، قائم على أساس المستويات المتدرجة الواضحة، والتدرج الرئاسي للسلطة والمسؤولية ووحدة الأمر ، كما أ،ه تنظيم مكم البناء ويتصف بالثبات والاستمرارية، ويتحكم النظام بين الرؤساء والأعضاء وتستقر السلطة المطلقة عند رئيس العصابة أ, رئيس التظيم الاجرامي.
-التخطيط: يعتد نظام العصابات المنظمة على التخطيط المحكم وهو مايتحقق بناءا على عمل جماعي، بحيث يتم تنسيق الأدوار بين الأ‘ضاء، ويتم تسنيد المهام المسندة ال كل عضو بكل صرامة وغالبا مايكون التخطيط من جانب قيادة مصغرة تصدر قرارات صارمة والزامية دون مناقشة أو مشاورة مع الجانب التنفيذي كما أ، الاعضاء الأقل مرتبة ينفذون الأوامر دون أدنى تفكير في العواقب.
-التكامل: مايميز لجريمة المنظمة ه أنها حلقات متكاملة ومتسلسلة، وتعمل بشبكات مختلفة كل شبكة تكمل الدور كحلقة وصل بين الشبكات الاخرى، فتجار المخدرات مثلا مثلا هناك شبكة تتكفل بتوفير المادة الخام، وشبكة بالنقل وشبكة بالعبور وشبكة بالتوزيع...الخ
-التعقيد والسرية: مايميز الجريمة المنظمة أنها معقدة من حيث نشاطها فتجار المخدرات ينسقون مع تجار السلاح وتجار التزوير وتبييض الأموال ..الخ، كما أنها تمتاز بسرية فمثلا مروج المخدرات الذي ينتمي ال شبكة اجرامية لايعرف رئيس العصابة وانما تعتمد غلبا في عملها عل نظام الشبكة ، ففي حالة كشف أمر الجريمة تنتهي الأدلة عند المجرم الذي وقع في القبض ولايمكن كشف كل أعضاء الجريمة الأخرين.
ثانيا : من حيث طبيعة النشاط
-الاحتراف: تعتمد الجيمة المنظمات الاجرامية على الاحترافية وسرعة التنفيذ وتأمين الأماكن والمعابر كما أ،ها تعتمد على أشخاص مؤهلين للقيام بأعمال العنف أو الجريمة أو اختراق نظام أمني بواسطة لغراء والرشاوي..الخ.
-الاستمرارية: تستمر الجريمة المنظمة استنادا الى الاحترافية في عملها وليس استنادا على الأشخاص، فالجريمة المنظمة شبكة تعمل على تحقيق أهداف على المدى البعيد ويستمر نشاطها بنفس الوتيرة ولو تغير جميع أفرادها.
-استعمال العنف: تعتمد الجريمة المنظمة في أعمالها على العنف والقتل والاختطاف والابتزاز والتهديد، لذلك تجد دوما أفراد الجريمة المنظمة مسلحين ، فالجريمة متكاملة في أركان الجريمة المنظمة من العمل المحضور الى استعمال المحضور لتحقيق غايات خارجة عن القانون بطرق مخالفة للقانون. [lxx]
3-مميزات الجريمة المنظمة:
تشمل الجريمة المنظمة على الصعيد الدولي جميع أنواع الاتجار، كالاتجار بالأشخاص والمخدرات والأسلحة والعربات المسروقة والحيوانات والنباتات البرية، وما ينتج عن ذلك من فساد وغسل أموال. وازدادت هذه الجريمة على نحو ملحوظ مع نمو حركة تنقّل الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال، وهي تواكب التطوّرات التقنية وباتت تعتمد على التكنولوجيات الحديثة لإعادة تدوير الأموال القذرة، أو لصقل أنشطتها التقليدية أو لاستحداث أنشطة جديدة من قبيل جرائم الفضاء الإلكتروني[lxxi]
كما
أن جرائم الفضاء الإلكتروني والجرائم البيئية من بين أنواع الجرائم المستجدّة.
وأصبحت
تحتلّ الجرائم البيئية المرتبة الرابعة في قائمة الجرائم الأكثر ربحًا في العالم.
وبات من الملحّ الاعتراف بها على اختلاف أنواعها، على أنها نوعٌ من أنواع الجريمة
المنظمة وفق التعريف الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر
الوطنية، ويشمل هذا النوع من الجرائم، الاتجار بالحيوانات، واستغلال الغابات أو
المناجم، وصيد الأسماك غير الشرعي، والتجارة غير الشرعية بالنفايات، وغيرها.
وسيتيح ذلك تعزيز قدراتنا العملية على الصعيد الوطني والتعاون الدولي مع بلدان
المنشأ والعبور والمقصد.[lxxii]
4-أليات مكافحة الجريمة المنظمة:
الإجراءات المتّخذة في الاتحاد الأوروبي
يلتزم الاتحاد الأوروبي بانتهاج سياسة طوعية في مكافحة الجريمة المنظمة.
وتطبّق هذه السياسة في خلال الدورة السياسية للفترة بين عامي 2018 و2021 لمكافحة الجريمة المنظمة الدولية. وتتيح تعزيز التعاون بين الكيانات المختصّة لدى الدول الأعضاء وبين مؤسسات الاتحاد الأوروبي ووكالاته ومع البلدان والمنظمات الأخرى والقطاع الخاص. وتتمثّل أهدافها الرئيسة فيما يلي:
مكافحة جرائم الفضاء الإلكتروني: ولا سيّما الهجمات على نظم المعلومات، والاتجار بالأطفال لأغراض الاستغلال الجنسي، والتزوير ووسائل الدفع غير النقدي.
مكافحة الاتجار بالمخدرات: ولا سيّما من خلال عرقلة نشاط مرتكبي الجريمة المنظمة، ومن خلال إضعاف الشبكات المتورطة في الاتجار بالمخدرات وتوزيعها، وكذلك من خلال التصدي لإنتاج المخدرات الاصطناعية والمؤثرات النفسية الجديدة،
مكافحة تهريب المهاجرين: من خلال محاربة المجموعات الإجرامية التي تسهّل الهجرة غير الشرعية،
أعمال السرقة والسطو المنظمة التي تقوم بها منظمات إجرامية كثيرة التنقّل تنفّذ أعمال سرقة وسطو في الاتحاد الأوروبي.
مكافحة الاتجار بالأشخاص.
مكافحة الصلات بين الاتجار والتهرّب الضريبي: ولا سيّما تهريب البضائع الخاضعة للضرائب، على غرار التبغ أو الكحول أو التهرّب من دفع الضريبة على القيمة المضافة،
مكافحة الاتجار بالأسلحة النارية.
مكافحة الجرائم البيئية:وخاصة الاتجار بالحيوانات البريّة والاتجار غير الشرعي بالنفايات،
مكافحة غسل الأموال: من خلال استهداف عمليات غسل الأموال التي تنفّذ بصورة خاصة بواسطة أساليب دفع جديدة.
تزوير الوثائق: ولا سيّما إصدار الأوراق المزوّرة.[lxxiii]
المحاضرة السادسة: الفقر ومشكلات التنمية.
تمهيد:لقد أصبح الفقر أهم عقبة تواجه المجتمعات والشعوب والحكومات في الزمن الحاضر.
ذلك لأنَّ الفقر يُعدُّ مظهراً من مظاهر زيادة الحاجات عن الموارد، إذ يتمثل في عدم توافر الحد الأدنى اللازم لمعيشة إنسانية كريمة.
ثم إنَّ الفقر يعتبر مشكلة اجتماعية، تحول بين الإنسان وتحقيق مستوى اقتصادي واجتماعي مرغوب ومقبول، ويُعدّ الفقر مشكلة اجتماعية لأنه يؤثر في أعداد كبيرة من الناس، فهو محصلة عجز الناس عن تحقيق حاجاتهم الضرورية.
ومن الأوجه الأخرى للفقر: ضعف القدرة على اتخاذ القرارات وممارسة حرية الاختيار والتصرف بالأصول الإنتاجية، وعدم القدرة على مواجهة الصدمات.[lxxiv]
مفهوم الفقر:
الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث إن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة الى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات. في عام 2015، كان أكثر من 736 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر الدولي، وكان حوالي 10 في المائة من سكان العالم (ما قبل الجائحة) يعيشون في فقر مدقع ويكافحون من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الصحة والتعليم والحصول على المياه والصرف الصحي. كان هناك 122 امرأة تتراوح أعمارهن بين 25 و 34 عامًا في فقر مقابل كل 100 رجل من نفس الفئة العمرية، وأكثر من 160 مليون طفل معرضين لخطر الاستمرار في العيش في فقر مدقع بحلول عام 2030.[lxxv]
لذا، قيل إنَّ للفقر حدوداً ثلاثة: نفسية، واجتماعية ونقدية، حيث يعتبر كل إنسان فقيراً، إذا كان دخله غير كاف لبلوغ مستوى الحد الأدنى للعيش.
وبهذا نستطيع القول إنَّ الفقر ظاهرة معقدة ذات أبعاد متعددة، اقتصادية واجتماعية، وربما سياسية وتاريخية. ويختلف مفهوم الفقر باختلاف البلدان والثقافات والأزمنة، لأنَّ الفقر هو حالة من الحرمان المادي، تتجلى أهم مظاهرها في انخفاض الاستهلاك من الغذاء كماً ونوعاً، وتدني الحالة الصحية والمستوى التعليمي والوضع السكاني، والحرمان من تملك السلع المعمرة، وفقدان الاحتياطي أو الضمان لمواجهة الحالات الطارئة كالمرض والإعاقة والبطالة والكوارث والأزمات.
أما خصائص الفقراء فتبرز في الآتي:
أولاً : الناحية الديمغرافية:
1 ) ارتفاع معدل الإعالة.
2) ارتفاع متوسط أعداد أفراد الأسرة.
3) انتشار الفقر بين النساء والأطفال.
ثانياً : الناحية التعليمية:
1 ) ارتفاع نسبة الأمية.
2) انخفاض معدل الالتحاق بالتعليم الأساسي.
3) تفشي الجهل والجريمة والمخدرات.
ثالثاً : الناحية الصحية:
1 ) نقص في التغذية.
2) ارتفاع نسبة المعوقين وانتشار الأمراض.
3) انحطاط الخدمات الصحية في الحضر وانعدامها في الريف.
رابعاً : الناحية السكنية:
1 ) عدم وجود المساكن الصحية.
2) انعدام النظافة والصرف الصحي.
3) نقص أو انعدام الحصول على المياه النظيفة.
خامساً: الناحية الاقتصادية:
1 ) ارتفاع معدل البطالة التي تولد الفقر.
2) انعدام الأمن الغذائي وفرص العمل.
3) انتشار الجرائم الاقتصادية.[lxxvi]
أسباب الفقر ومشكلات التنمية في العالم:
مظاهر الفقر في العالم:
الفقر بالأرقام
لقد دأبت منظمة الأمم المتحدة كل سنة على نشر الكثير من الأرقام التي سأوجز بعضها قبل الدخول في الحقائق التي تدين "جزيرة الأغنياء" أو الدول الأكثر غنى في العالم، والتي تحملها جزءا كبيرا من المسؤولية عن حالة الفقر التي تسود كوكب الأرض والتي تعطي فكرة عن حجم الأزمة التي تقترب كل يوم من حدود الكارثة.
– يعيش فوق كوكب الأرض 6 مليارات من البشر يبلغ عدد سكان الدول النامية منها 4.3 مليارات، يعيش منها ما يقارب 3 مليارات تحت خط الفقر وهو دولاران أميركيان في اليوم، ومن بين هؤلاء هنالك 1.2 مليار يحصلون على أقل من دولار واحد يوميا.
– وفي المقابل توضح الإحصاءات الغربية بالأرقام أن الدول الصناعية تملك 97% من الامتيازات العالمية كافة، وأن الشركات الدولية عابرة القارات تملك 90% من امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق، وأن أكثر من 80% من أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية يذهب إلى 20 دولة غنية.
– وفي البلدان النامية نجد أن نسبة 33.3% ليس لديهم مياه شرب آمنة أو معقمة صالحة للشرب والاستعمال، و25% يفتقرون للسكن اللائق، و20% يفتقرون لأبسط الخدمات الصحية الاعتيادية، و20% من الأطفال لا يصلون لأكثر من الصف الخامس الابتدائي، و20% من الطلبة يعانون من سوء ونقص التغذية.
– وفي المقابل تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين. وتوضح الدراسات أنهم لو ساهموا بـ 1% من هذه الثروات لغطت تكلفة الدراسة الابتدائية لكل الأطفال في العالم النامي.
–يموت 35 ألف طفل يوميا بسبب الجوع والمرض ويقضي خمس سكان البلدان النامية بقية اليوم وهم يتضورون جوعا، تقل المساعدات المخصصة للدول الفقيرة عن طريق منظمة الأمم المتحدة عما تنفقه تسعة من البلدان المتقدمة على غذاء القطط والكلاب في ستة أيام فقط.[lxxvii]
الحلول المقترحة
1- تطوير القطاعات الاقتصادية وتمفصلها
"إن تحقيق نمو مستدام وزيادة فرص التشغيل تحتاج إلى نمط جديد للتنمية يقوم على ثلاثة تحولات جوهرية متمثلة في: تفعيل دور القطاع الخاص، التحول من الحماية والإنغلاق إلى مزيد من الانفتاح والاندماج في الأسواق العالمية، والتحوُّل من اقتصاد أحادي الموارد إلى اقتصاد أكثر تنوعاً واستقراراً. وتتطلَّب هذه التحولات بدورها تحسين البنية المؤسسية وأسلوب إدارة التنمية، بالإضافة إلى قيام عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومختلف الأطراف الفاعلة في الإقتصاد. وبالإضافة إلى هذه الإصلاحات الاقتصادية، هناك حاجة الى تنفيذ إصلاحات هامة أخرى، من بينها الحد من النمو السكاني وإستصلاح المنظومة التعليمية لتلافي تدني المستوى التعليمي ومخرجاته التي لا تتماشى مع متطلبات سوق العمل الحديثة.
لذا، لا بد من تدعيم القاعدة الانتاجية، وتخفيف ما أمكن من هشاشة الاقتصاد المكشوف على الخارج. وذلك بتقليص الاعتماد على استيراد السلع من الخارج الأمر الذي يعني في نهاية المطاف تخفيفًا لاستيراد التضخم، وهذا ما يجب أن تكون عليه السياسة الاقتصادية الانمائية. إن نمو القطاع الصناعي يحمل إيجابيات كثيرة أبرزها تحول أعداد كبيرة من اليد العاملة الكامنة.
2 - تأمين عدالة أفضل في توزيع الثروة
إن الفروقات الكبيرة بين ذوي الدخل المحدود، وذوي الثروات الطائلة، قد تعمق بشكل كبير، بل إنه يمكن القول بأن الفئة الوسطى قد ضمرت. ولذا، فإن تنمية الإنتاج (زراعي أم صناعي أم خدماتي) تفترض بالضرورة تأمين تصريف أكبر للإنتاج الوطني في السوق المحلية. وهذا يستدعي حكماً، تحسين أوضاع الفئات الدنيا من المواطنين والتي تشكل السواد الاعظم من الناس. ويستدعي أيضاً، حلاً لمشكلة البطالة المستشرية، وإلا فإن اقتصاد أي بلد سيبقى في ركود وتدهور. وبالتالي فإن اليد العاملة الكفوءة ستضطر مرة جديدة إلى ان تهجر الوطن إلى وطن آخر يؤمن لها حياة حرة كريمة. لذا، فإن سياسة اقتصادية فضلى يجب أن تحقق العدالة الاجتماعية بحيث تسهم إلى حد كبير في إزالة الحقد الاجتماعي الذي يبعد العنف المدمر، ويعبد الطريق أمام علاقات اجتماعية (أرباب عمل وعمال) أكثر توازناً، فتضعف، إن لم نقل تنعدم، الانتفاضات الاجتماعية.
"في إعلان كوبنهاغن وبرنامج العمل اللذين تم تبنيهما في القمة العالمية للتنمية الاجتماعية العام 1995 التزم 117 رئيس دولة وحكومة جعل هزيمة الفقر، والتشغيل الكامل، وتأسيس مجتمعات مستقرة، آمنة وعادلة الهدف الأول لسياسات التنمية في بلادهم. وتضمنت الالتزامات المحددة بلغة إعلان إقامة بيئة تمكن الناس من تحقيق التنمية الاجتماعية، والقضاء على الفقر في العالم، وتعزيز التشغيل الكامل، وتمكين كل الرجال والنساء من الحصول على سبل معيشة آمنة ومستدامة، وتعزيز التكامل الاجتماعي القائم على حماية جميع حقوق الإنسان وكذلك على عدم التمييز، وعلى التسامح، واحترام التنوع، وتساوي الفرص، والتضامن والأمان، ومشاركة الناس جميعاً بما يشمل الجماعات والأفراد المحرومين والمستضعفين ، وتعزير تكافؤ الفرص في التعليم وتعميم التعليم الراقي النوعية، والإسراع بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، بخاصة في البلاد الأقل نمواً، وضمان شمول برامج التكيُّف الهيكلي لأهداف التنمية الاجتماعية، وزيادة الموارد المخصصة للتنمية الاجتماعية واستغلالها بكفاءة أكثر، وأخيراً تحسين إطار التعاون الدولي والإقليمي وما دون الإقليمي من أجل التنمية الاجتماعية.
3-تطوير اليد العاملة
يفترض تطوير يد عاملة قادرة على اسخدام الآلة، بالضرورة، العمل على تأمين الملاكات الفنية المختلفة الكفاءة التي تتمكن من استخدام الآلة (التكنولوجيا) بسهولة، والتعامل معها، ومراقبة عملها. وهؤلاء العمال بالتالي هم الذين يحققون مستوى أداء وانجاز حقيقي متطور أو أقل تطورًا. لذا، فكم هو مهم دور الدولة في اتخاذ قرارات توجيهية حقيقية، وذلك بإنشاء المدارس المهنية وتشجيع تحويل الناشئة إليها لما لذلك من دور في تبديل الذهينة التي تعتبر بأن الشهادة الجامعية هي الوحيدة التي تحقق حياة أفضل. "لقد اصبحت أهمية تطوير التعليم التقني والتدريب المهني تلقى قبولاً عامًا بحسبانه ليس كحل لمشاكل الطلبة المتسربين من المدارس، بل كوسيلة قادرة على تحسين فرص التشغيل ودعم الاقتصادات بالقوى العاملة الماهرة والمؤهلة".
لقد أثبت الواقع أن اليد العاملة المتخصصة ذات قيمة مرتفعة في سوق العمالة الداخلية والعالمية. فالدول النامية التي تتوافر لديها اليد العاملة الكفوءة، وبأسعار استخدام تنافسية، سوف تكون قادرة على تصديرها إلى ارجاء العالم كافة، فالبولونيون والتشيك والرومان والالمان (من شرق ألمانيا) يسعون لايجاد فرص عمل في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الاميركية معتمدين في أغلب الأوقات على كفاءة عالية وأجور منخفضة، وأميركا اللاتينية تصدر أيضاً القوى العاملة نحو الشمال. والهند أيضاً أضحت مصدراً قويًا لليد العاملة الكفوءة والمدرَّبة. هذا يعني أن على العامل أن يكون في أتم الجهوزية للعمل بالسعر التنافسي، ومزوداً معرفة وتقنية عاليتين. أما أولئك الذين لا يتمتعون بالكفاءة المطلوبة، فمحكـــوم عليهم بمصير صعب. والتحدي الكبير في السنوات القادمة سوف يتمثل بالقدرة على إيجاد حل للملايين من الفقراء العاطلين عن العمل والذين لا يتمتعون بأية كفاءة، ويتحقق ذلك نسبياً بإعادة تأهيلهم وتدريبهم.
4- تفعيل التعاون والتنسيق بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني
يتأمن العمل الفعال المشترك بين الدول والمجتمع المدني بتحقيق الآتي:
- تطوير الإطار التشريعي الناظم لعمل منظمات المجتمع المدني: وهذا يعني في ما يعنيه تفعيل دور الأحزاب السياسية الوطنية لتتمكن من الاضطلاع بدور طليعي، ولا يكون وجودها هشاً هامشياً في الحياة السياسية، وبالتالي تعاطي الدولة مع الأحزاب السياسية على أنها مؤسسات وطنية للتنمية السياسية والديمقراطية.
- تفعيل دور الجمعيات والهيئات الاجتماعية بحيث تتمتع بالاستقلالية في إدارة انشطتها من دون تدخل في عملها، وهذا وحده يكفل للجمعيات غير الحكومية حق ممارسة أنشطتها التي تشكل ترجمة لأهدافها وبرامج عملها بعيداًُ عن التهديد بحظر هذه الأنشطة بدعوة أن لها أهدافاً سياسية.
وتقول منظمة الشفافية الدولية في "توجيهاتها ونصائحها" المبنية على نتائج تحديد درجة الفساد عبر الدول، بأن "تعزيز مؤسسات المجتمع المدني والمواطنة، هي إستراتيجية مهمة للدول النامية التي تهدف إلى تحميل الحكومات المسؤولية"، وقال بهذا الصدد، المدير الإداري لدى المنظمة، كوبس دي سورات، "لكن الكثير من الحكومات تحد من نشاطات مؤسسات المجتمع المدني"، كما سجلت الهيئة نفسها أن الكثير من الحكومات غير قادر على "تحمل عبء الإصلاح لوحدها".
إن الشراكة بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني "أضحت مسألة جوهرية، وعملية بناء شراكات فاعلة في المنطقة العربية، هو تحد ينضم إلى باقي تحديات التنمية البشرية المستدامة". إن وثيقة الأهداف الإنمائية للألفية، التي التزمها العالم، تتناول أهمية وجود المجتمع المدني القوي" أي ليس مجرد "بنية تنظيمية، وإنما مؤسسات مدنية فعالة، لا بد من توفير البيئة الملائمة لها".
إن التشديد على ضرورة وجود مؤسسات مدنية فعالة، ينطلق من الفجوة الكبيرة بين الخطاب السياسي الذي يركِّز على أهمية الشراكة وقيمتها، وبين الواقع الذي ما يزال التطبيق فيه هزيلاً، فلا يترجم إلى خطط عمل وتوجهات واضحة تحقق الشراكة الفعلية وتسعى إلى تدعيمها.
إن تفعيل دور المؤسسات الشبابية بشكل خاص والتنسيق والعمل المشترك بين منظمات المجتمع الأهلي بشكل عام، يتأمن عن طريق وضع مشاريع مشتركة، والحصول على مساعدات ومساندة الدولة والقطاع الخاص والمنظمات الدولية، بهدف التخفيف من حالة الفقر الموجودة في المناطق كافة.
5- تأمين الشفافية
ما هي الشفافيّة؟
"يُعنى بالشفافيّة في التقارير الماليّة مجموع التصاريح الماليّة التي تعكس بصدق ووضوح الأداء العمليّ والماليّ للشركة في فترة زمنيّة محدّدة (فترة سنة عادةً)، كما تعكس الوضع الماليّ للشّركة في بداية هذه الفترة ونهايتها،". "وعلى الرّغم من بساطة هذا التحديد، إلاّ أنّه أظهر صعوبةً في التّطبيق وفي المراقبة ليس فحسب في البلدان النّامية بل في البلدان المتطوّرة أيضاً حيث أبرزت الفضائح الماليّة التي وقعت مؤخّراً في الشّركات العالميّة حاجةً ماسّة إلى وضع معايير مشتركة في أنظمة المحاسبة في جميع أنحاء العالم وإلى تأمين أكبر درجة من التقيّد لا سيّما في ما يتعلّق بالشركات المدرجة في البورصات..
"وعلى الرّغم من بساطة هذا التحديد، إلاّ أنّه أظهر صعوبةً في التّطبيق وفي المراقبة ليس فحسب في البلدان النّامية بل في البلدان المتطوّرة أيضاً حيث أبرزت الفضائح الماليّة التي وقعت مؤخّراً في الشّركات العالميّة حاجةً ماسّة إلى وضع معايير مشتركة في أنظمة المحاسبة في جميع أنحاء العالم وإلى تأمين أكبر درجة من التقيّد لا سيّما في ما يتعلّق بالشركات المدرجة في البورصات".
6- تضافر جهود المجتمع الدولي
طالما أنه ينظر للفقر على أنه ظاهرة عالمية ويشكل بالتالي مشكلة تعانيها سائر دول العالم، وإن كانت بمقاييس مختلفة، لذا، كان لزاماً على المجتمع الدولي من خلال منظماته أن يتعاضد للمساهمة في إيجاد الحلول لهذه المشكلة.
ذلك أن ظاهرة الفقر التي تَحل بمليارات الناس في العالم سيصيب شظاها كل مجتمع، أليس الأرهاب صنيعة الفقر والجوع والجهل والحرمان والحقد؟ ألم يرتفع إجمالي الدين العام القائم في ذمة الدول النامية واقتصاديات دول السوق الناشئة الأخرى من 3.023 تريليون دولار العام 2005 إلى حوالى 3 تريليون و243 مليار دولار العام 2006؟ ألم تصبح مديونية دول الشرق الأوسط حوالى 282.4 مليار دولار أميركي؟
طبعاً المجتمع الدولي "يسعى" ولكن سعيه خجولاً!
ألا يُصرف سنوياً على التسلُّح مئات المليارات؟ ألا تُصرف مئات المليارات على الحروب في العالم؟ الأ يستحق العالم أن يصرف القليل القليل من المليارات لحل مشاكله المؤلمة؟
لقد بلغ اجمالي انفاق السلاح الدولي للعام 2006 حوالى ترليون و200 بليون دولار، كانت لأميركا فيها حصة الأسد إذ وصل حجم إنفاقها العسكري إلى 528.7 بليون دولار. وسيستمر ارتفاع الإنفاق الدولي على السلاح بعدما زاد بنسبة 37% خلال عقد واحد. أما روسيا فما يزال انفاقها العسكري هزيلا جداً، مقارنة بأميركا والاتحاد الأوروبي، إذ لم يتجاوز 34.7 بليون دولار .
وبحسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية كـ "أمنيستي" و"وكسفام" فإن ما يزيد على 68% من صادرات السلاح يذهب إلى بلدان الجنوب في العالم، حيث هناك 35 دولة تستورد 90% من الأسلحة في العالم من حيث القيمة. والملفت أنه العام 2005 كانت ستة بلدان من بين "مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى" بين أكبر عشرة مصدِّرين للأسلحة على مستوى العالم كله. وكانت البلدان الثمانية جميعها تصدر كميات هائلة من الأسلحة التقليدية الرئيسة أو الأسلحة الصغيرة إلى البلدان النامية. ووصلت أسلحة البلدان الثمانية إلى بعض من أفقر بلدان العالم وأشدها مكابدة للصراع (الكونغو الديمقراطية، الفلبين، كولومبيا، ومنطقة البحيرات العظمى)، وفي هذا دلالة واضحة على الدور الذي تضطلع به هذه الدول في تأجيج مناطق العالم بصراعات دموية، بغية فتح أسواق جديدة لأسلحتها، ومن بعد لشركاتها العاملة في مختلف المجالات كـ "البنية التحتية" والاتصالات وبناء الجيوش وتدريبها وتسليحها. تصدَّرت قائمة أكبر عشر دول مستوردة للسلاح خمس دول شرق أوسطية، وذلك بحسب دراسة أعدتها مؤسسة أبحاث السلام الدولية في استوكهولم والمعروفة باسم «سيبري»: من بينها إيران، والسعودية ودولة الإمارات وإسرائيل.
على المجتمع الدولي أن يسعى لمنع حدوث النزاعات المسلحة، وأن يعمل على فض ما هو دائر منها، وأن ينخرط مع الدول ذات الأطر الضعيفة في مجال وضع السياسات وإضفاء الطابع المؤسسي على حماية الأطفال والنساء، وأن يوفر الخدمات الأساسية. والاستجابات التي تتم في حالة الطوارئ للتعامل مع الأطفال العالقين في النزاعات المسلحة يجب أن تشمل خدمات التعليم، وحماية الأطفال العالقين في النزاعات المسلحة يجب أن تشمل خدمات التعليم وحماية الأطفال والوقاية من انتقال نقص المناعة البشرية.
ولكن كيف يمكن أن يحصل ذلك ولدى الولايات المتحدة الأميركية متطلبات "قيادية"، أضف إلى أن صناعة الأسلحة الأميركية، (وخصوصاً المصانع الكبرى المسؤولة عن حجم كبير من الوظائف)، لا تتحمل مسؤولية أمنية فحسب، بل أهمية اقتصادية أيضا.ً ألا تعمل في مصانع السلاح في الولايات المتحدة الأميركية أعداد كبيرة من العمال؟. لقد شكل حوالى 40 مصنعاً للأسلحة الأميركية نسبة 63% من إجمالي عقود مبيعات الأسلحة الأميركية التي قدرت العام 2005 بحوالى 290 مليار دولار. وعليه ألم تخدم القرارات السياسية صناعة الأسلحة بشكل واضح؟ خصوصًا في أثناء حرب العراق وإيران؟ وكذلك بعد اعتداءات 11 أيلول 2001؟ ألم تعمل هذه الصناعة بكامل طاقاتها في الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، واليابان وغيرها؟
والملفت مرة جديدة في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية، أن 74% من الناتج القائم العالمي العام 2004 استأثرت بها الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي واليابان، وسكان هؤلاء الدول لا يشكلون سوى 14% من مجمل سكان العالم، وهذه النسب كافية لوحدها لتظهر مدى التفاوت والهوة وعدم المساواة بين الدول المتقدمة والدول النامية. وهذه الدول قابضة بشكل واسع على مقدرات العالم، وتحديد خياراته وتوجهاته.
طبعاً تهتم الأمم المتحدة بموضوع الفقر في العالم، وتعقد لذلك المؤتمرات، في محاولة "للقضاء على الفقر المدقع" وقد "اكتشفوا" أنه لا بد من أنت يكون للأفراد فرص متساوية في عيش الحياة التي يختارونها، وفي النجاة من الحرمان الشديد". وعلى الرغم من كثرة المؤتمرات والبرامج والمخططات والقرارات التي تصدر عنها، إلا أن النتائج المطلوبة تبقى بعيدة المنال. وهذا يعني أن نتائج تجارب المنظمات الدولية على هذا الصعيد بقيت متواضعة جداً، ولا بد من تفعيلها ويتحقق ذلك إذا ما توافرت النوايا الحسنة ورغبة الدول الكبرى المتقدمة والمتطورة في تقديم المساعدة.[lxxviii]
المحور السابع: العولـــــــــــــــــمة
تعريف العولمة:
تظهر العولمة كمفهوم في أدبيات العلوم الاجتماعية كأداة تحليلية لوصف عمليات التغير في مجالات مختلفة، ولكن العولمة ليست مفهوم مجرد، فهي عملية مستمرة يمكن ملاحظتها باستخدام مؤشرات كمية وكيفية في مجالات السياسة ،والاقتصاد ،والثقافة ،والاتصال وهناك إجماع بين المراقبين للحياة الدولية على أن العمليات السياسية، والأحداث، والأنشطة في عالم اليوم لها بعد كوني دولي متزايد، في الوقت الذي يرى بعض الباحثين أن هناك أربع عمليات أساسية للعولمة هي: المنافسة بين القوى العظمى، والابتكار التكنولوجي، وانتشار عولمة الإنتاج و التبادل، والتحديث.
هناك في البداية أوصاف عامة للعولمة، قد لا تغني في التحليل الدقيق لمكوناتها، وإن كانت تعطي فكرة مبدئية عن هذه العملية التاريخية، من ذلك مثلا ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن العولمة تصف وتعرف: مجموعة من العمليات التي تغطي أغلب الكوكب أو التي تشيع على مستوى العالم، ومن هنا فالعولمة لها بعد مكاني، لأن السياسة والأنشطة الاجتماعية الأخرى أصبحت تبسط رواقها على كل أنحاء المعمورة، والعولمة من ناحية أخرى تتضمن تعميما في مستويات التفاعل والاعتماد المتبادل بين الدول والمجتمعات والتي تشكل المجتمع العالمي.
ونستطيع في مجال تعريف العولمة بطريقة تحليلية أن نتأمل محاولة نظرة لافتة قام بها "جيمس روزناو" أحد أبرز علماء السياسة الأمريكيين، حيث يقول: "وإن كان يبدو مبكرا وضع تعريف كامل، وجاهز يلائم التنوع الضخم لهذه الظواهر المتعددة فعلى سبيل المثال، يقيم مفهوم العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل، الاقتصاد، السياسة، الثقافة الإيديولوجيا، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج، تداخل الصناعات عبر الحدود انتشار أسواق التمويل، تماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة".([lxxix])
وإذا أردنا أن نقترب من صياغة تعريف شامل للعولمة – يقول السيد ياسين – فلا بد من أن نضع في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهرها: العملية الأولى: تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس، والعملية الثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول بين والعملية الثالثة: هي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات وأيا كان الأمر، فيمكن القول أن جوهر عملية العولمة يتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على النطاق الكوني.([lxxx])
الأبعاد المختلفة لظاهرة العولمة
1-البعد الإعلامي للعولمة
مما لاشك فيه أن العولمة ومختلف مظاهرها السياسية ,والاقتصادية ,والاجتماعية قد لاقت الكثير من البحث والدراسة سواء في مؤلفات أكاديمية ,أو دراسات بحثة ,وعلى الرغم مما كتب ودرس عن العولمة كمفهوم ومصطلح ,أو كمضمون ,ومحتوى وعلاقته بالإعلام والاتصال ومؤسساتها، ودور الصور والمضامين والرموز العابرة للقوميات والحدود عن طريق وسائل الإعلام والمعلومات، فإن لم تظهر سوى محاولات قليلة لتحديد مفهوم عولمة الإعلام والاتصال ,والتابع لهذه المحاولات يلاحظ أنها اتسمت بالاستقطاب الحاد بين تيارين.
الأول: يؤيد بحماس ,ودون تحفظ عولمة الإعلام ,ويبرز إيجابياتها باعتبارها تدعم من التدفق الحر للمعلومات وحق الاتصال، وتوفر للجمهور فرصا غير محدودة كحرية الاختيار بين وسائل الإعلام والمعلومات ,وفي إطار هذا التيار ظهرت أصوات متعددة توجد بينها اختلافات في الداخل والرؤى العامة، فهناك أصحاب المدخل التكنولوجي، الذين يركزون على أن التقدم التكنولوجي المتسارع في مجال الإعلام يحدث نقلات ثورية في بعدي الزمان والمكان وما يرتبط بها من خبرات اجتماعية، فضلا عن التمهيد إلى وعي جديد، وكدا الفصل بين الجغرافيا والثقافة، وهناك أصحاب مدخل ما بعد الحداثة وأشهرهم "أنتوني غيدنر" الذي يرى أن ما بعد الحداثة هي نسخة راديكالية من الحداثة، ويرى أن العولمة هي توسيع للحداثة من نطاق المجتمع إلى نطاق العالم، ويقول أن عولمة الإعلام "mediaglobalization " هي ضغط للزمان والمكان، وهي سمية رئيسية في العالم المعاصر، وأشار إلى أن عولمة الإعلام هي الامتداد ,أو التوسع في مناطق جغرافية مع تقديم مضمون متشابه وذلك كمقدمة لنوع من التوسع الثقافي ,وأكد غيدنر أن وسائل الإعلام والتكنولوجيا الجديدة جعلت من الممكن فصل المكان عن الهوية والقفز فوق الحدود الثقافية والسياسية والتقليل من مشاعر الانتساب.([lxxxi]) أو الانتماء إلى مكان محدد.
الثاني: هو الرأي الذي يعارض عولمة الإعلام ,ويرفض ما يقال عن ايجابياتها وينظر إليها باعتبارها نفيا للتعددية الثقافية، وتشيدا لقيم الربح ,والخسارة ,وآليات السوق في مجالات الإعلام والاتصال و المعلومات وتفويض سلطة الدولة لصالح الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات ويمثل هذا التيار اتجاهات عديدة أّبرزها
ممثلو النموذج النقدي يتقدمهم "هربرت شيلر "الذي عرف عولمة الإعلام بأنها "تركيز وسائل الإعلام في عدد من التكتلات الرأسمالية " العابرة للجنسيات التي تستخدم كحافز للاستهلاك على النطاق العالمي.
ويرى "نعوم شتومسكي" أن عولمة الإعلام هي "الزيادة الضخمة في الإعلان خاصة الإعلان عن السلع الأجنبية ,والتركيز في ملكية وسائل الإعلام الدولية، وبالتالي انخفاض التنوع والمعلومات مقابل الزيادة في التوجه للمعلن، وأنها التوسع في التعدي على القوميات من خلال شركات عملاقة شاملة ,ومستبدة يحركها الاهتمام بالربح ,وتشكيل الجمهور وقف نمط خاص، حيث يدمن الجمهور أسلوب حياة قائما على حاجات مصطنعة مع تجزئة الجمهور، وفصل كل فرد عن الآخر حيث لا يدخل الجمهور الساحة السياسية، ويزعج أو يهدد نظام القوى أو السيطرة في المجتمع.([lxxxii])
وتبقى محاولة الدكتور "محمد شومان" رائدة في مجال تحديد مفهوم واضح لعولمة الإعلام والاتصال حيث قال بأنها "عملية تهدف إلى التعظيم المتسارع والمستمر في قدرات وسائل الإعلام والمعلومات على تجاوز الحدود السياسية والثقافية بين المجتمعات بفضل ما توفره التكنولوجيا الحديثة، والتكامل والاندماج بين وسائل الإعلام والاتصال وذلك لدعم عملية توصيد ودمج أسواق العالم من ناحية، وتحقيق مكاسب لشركات الإعلام والاتصالات العملاقة متعددة الجنسيات على حساب تقليص سلطة ودور الدولة في المجالين الإعلامي والثقافي من ناحية أخرى، وينطوي مفهوم عولمة الإعلام على مجموعة من المكونات والأبعاد الأساسية وهي:
1- الترابط والتكامل بين مجالات الإعلام وتكنولوجيا الاتصال ومجتمع المعلومات، بحيث أصبح من الصعب تعريف الإعلام والاتصال بمعزل عن تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية، فالثورة العلمية في تكنولوجيا الإعلام والاتصال أوجدت وسائل جديدة، كالبث التلفزيوني الفضائي، والتكنولوجيا الرقمية التي وفرت إمكانيات هائلة الاستقبال الصوت والصورة بدقة ونقاء غير مسبوقين، وكذلك وسائل الإعلام المرئية التفاعلية، والفيديو والصحافة الإلكترونية عبر شبكة الإنترناث، وقد ارتبطت هذه الوسائل والتطبيقات بالمعلوماتية وبداية الدخول في مجتمع المعلوماتية.
2- النمو الهائل في اقتصاديات الإعلام ، والاتصال، والمعلومات ، وقد أفضى هذا النمو إلى مزيد من التداخل بين عولمة الإعلام، وعولمة الاقتصاد، فأصبحت الأولى جزءا أصيلا من عولمة الاقتصاد، وذلك بالنظر إلى الدور الكبير الذي يلعبه قطاع الاتصالات والإعلام ، في اقتصاديات الدول الكبرى، والأسواق العالمية، ومن هذا فإن أحد أبعاد عولمة الإعلام والاتصال هو تعظيم الأرباح للشركات متعددة الجنسيات التي تعمل في مجالات إنتاج وسائل الإعلام والمعلومات، وإنتاج المضامين الإعلامية المختلفة، فضلا عن صناعة الإعلام والترويج وبيع الخدمات.
3- توسيع الخيارات ،والبدائل الإعلامية أمام الجمهور، فقد وفرت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وبصورة غير مسبوقة مئات القنوات التلفزيونية ومئات المحطات الإذاعية وعشرات الصحف والمجلات الوطنية والدولية، فضلا عما توفره من وسائل الاتصال الحديثة ،والمرتبطة بالمعلوماتية.
4- تقليص دور الحكومات ،والمنظمات الدولية في تنظيم بيئة الإعلام ،والاتصالات المحلية والدولية لصالح الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات ،وفي هذا السياق تطرح عولمة الإعلام مشكلة خصخصة وسائل الإعلام والاتصال ،وإنهاء دور الدولة في مجالات الإعلام.
تعتبر عولمة الإعلام عملية متسارعة التغير، وبالتالي لم تتشكل ملامحها النهائية بعد، فهي تمر بمرحلة انتقالية، وذلك لسببين هما:
الأول: أن عولمة الإعلام تعتبر أحد أبعاد عملية أوسع ،هي عولمة الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة، ونظرا لعدم الاستقرار ،أو تبلور عملية العولمة، فإن هناك مجموعة من الرهانات والتحديات الاقتصادية ،والسياسية، والثقافية التي تحدد مسار تطور بل ومستقبل عملية عولمة الإعلام والاتصال.
الثاني: إن عولمة الإعلام تعتمد في بعد مهم منها على نتائج الثورة في مجال الاتصالات، والتي بدأت لتوها وسوف تستغرق تطوراتها عدة عقود قادمة وستدفعها إلى الأمام (التطبيقات) الجديدة أي الأدوات الجديدة التي ستلبي حاجات غير متنبأ بها حاليا.([lxxxiii])
2- البعد المعلوماتي للعولمة
لا مراء أن ظاهرة العولمة قد ارتبطت عضويا بالثورة الصناعية الثانية القائمة على المعلومة إنتاجا وتبادلا وتكتيفا، ومن أبرز هذه التقنيات الاتصالية الشبكات المعلوماتية السريعة، والتقدم المذهل في الصناعات الإلكترونية والالتحام بين الوسائل السمعية والبصرية، مما لا يتسع المقام للحديث المفصل عنه، بيد أن ما يميز خطاب العولمة السائدة هو بناء حكم معياري على هذه الحقيقة القائمة يتمثل في استنتاج مضمون ثقافي تنموي من الآلية التقنية ذاتها.
فحسب الأدبيات المستقبلية الرائجة، من شأن الثورة الاتصالية السائدة أن تحقق أبعد أحلام البشرية منالا مثل العدالة الاجتماعية، والديمقراطية والمساواة الاقتصادية، وتسود هذه النزعة لدى التيار المحافظ في و.م.أ.الذي يسعى إلى استخدام الطفرة المعلوماتية معبرا لبناء "قرن أمريكي" جديد.
ودون الدخول في هذه الأبعاد المباشرة، نكتفي بالتذكير أنها ترجع في العمق إلى خلفية النموذج العلمي – التكنولوجي المتأسس على أربع مرتكزات أساسية:
أ- التطور التجريبي – الرياضي للطبيعة، أي اعتبارها مدى قابلا للقياس والترويض والانطلاق من إمكانية استكناهها بالقوانين الرياضية القابلة للتحقق الاختباري، أي الإيمان بمصادرة التطابق بين التجريدات الرياضية، ونواميس الطبيعية، وليست المصادرة في حد ذاتها من الحقائق العلمية القابلة للبرهنة وإن كانت شرطا أوليا في الممارسة العلمية.
ب-بلورة نموذج جديد للحقيقة يتمثل في معيار "اليقين" التجريبي، أي القابلية للتحقق داخل حدود المجال الموضوعي للظاهرة.
ج- إعطاء الأولوية لبعد النجاعة العملية في مقابل الصلة الحميمة بالظاهرة، أي اختزال الوجود وثرائه إلى حجم الفوائد التي توفرها المقاربة التجريبية للظاهرة الطبيعية.
د- بناء المعارف المتصلة بالمجتمع والإنسان على نموذج علوم الطبيعة، من منطلق النجاعة العلمية والحاجة إليها في حل الإشكالات البشرية المطروحة من تنظيم اقتصادي وسياسي وتقنين للعلاقات الإنسانية، ومن هنا الارتباط الوثيق بين النظرة التكنولوجية (التقنية) والاقتصاد القائم على أدوات الإنتاج الحديثة، ومع إقرارنا بالعلاقة العضوية بين العلم والثقافة، إلا أنه من الأصوب اعتبار العلم تجسيدا للنظرة التقنية للوجود، بحكم أن التقنية هي الأفق الميتافيزيقي للعصور الحديثة كما بين الفيلسوف الألماني هايدغر.
و يطرح هذا التصور التقني عدة إشكالات نظرية ومعيارية ذات صلة بنمط تسيير الطبيعية وبأثر الاكتشافات العلمية على واقع البشر في وقت توطدت فيه العلاقة بين عناصر المركب التقني – المالي العسكري – الثقافي.
وحاصل الأمر أن التقنيات الاتصالية لا توفر في حد ذاتها مضمونا معياريا، وإنما تكرس الأنماط الثقافية والتنموية المهيمنة من خلال فاعليتها ونجاعتها العملية، ومن ثم توجب التمييز المنهجي بين الظاهرة التقنية ذاتها والنظرة التقنوية بأسسها الوضعية (فلسفيا) وغائيتها الإيديولوجية.([lxxxiv])
وقد أصبحت العولمة شاغلا أساسيا للتنظير الثقافي من الإعلام إلى الإبداع، ومن تربية الأطفال إلى إعداد الدعاة الدينيين، ويقود عولمة أيامنا أباطرة المال، وكهنة تكنولوجيا المعلومات، ومن ورائهم أهل السياسة.
هناك من لا يرى في العولمة أي جديد، وهناك من يراها ظاهرة إنسانية جديدة تماما، لم تعهد البشرية مثلها من قبل، ويتفق مع ذلك الرأي الجابري، الذي يراها أيديولوجيا تطرح "حدودا أخرى" غير مرئية ترسمها الشبكات العالمية بقصد الهينة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك، ومن يراها ظاهرة جديدة يصفها بعدة أوصاف: رأسمالية تكنولوجية ,رأسمالية معلوماتية ,رأسمالية ما بعد صناعية ,ورأسمالية ما بعد الفردية وعلى النقيض من ذلك هناك من يرى أن العولمة ظاهرة قديمة قدم الإمبراطوريات من إمبراطورية إغريق الإسكندر إلى إمبراطورية الرومان و الأتراك. ([lxxxv])
وينظر نبيل علي إلى العولمة من منظور معلوماتي – ثقافي، أكثر صلة بالثقافة والمعلومات معا وهو منظور ثنائية الوجود: الزمن، والمكان، في البداية كانت "عولمة الزمن" بإتباع توقيت غرينتش الشهير بعد أن كان لكل مدينة توقيتها الخاص بها ،وجاءت تكنولوجيا الموصلات والاتصالات متمثلة في النقل الجوي والاتصالات السلكية ، وللاسلكية لتدخل المكان في دائرة العولمة. ولم يبقى إلا الأحداث التي تجرى في إطار هذا الزمن وفي نطاق ذلك المكان، وهو ما تسعى إليه العولمة اليوم، أن تشمل كل أنشطة الإنسان وممارسته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتجارية والثقافية عامة كانت أو خاصة فهي تشمل مما تشمل حاليا عولمة المعاملات المالية والتجارية والأزياء وموضات قص الشعر، ورياضة الجري ووجبات الطعام، بل وعولمة الأجساد حيث تسعى صناعة الرشاقة وأدوية التخسيس إلى أن تجعل من مقاييس جسد المرأة الكاليفورنية نمطا معولما تحلم به الفتيات والنساء.([lxxxvi])
ويلخص رئيس وزراء هولندا السابق "رون لوبز" العولمة من المنظور الثقافي – المعلوماتي في القول بأن ظاهرة العولمة أحدثها محركان أولبان أديا بدورهما إلى متحركين، أو ناتجين، أو تأثيرين ويمكن شرح المحركين الأولى كما يلي:
أ – المحرك الأول: الابتكار التكنولوجي في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أساسا.
ب – المحرك الثاني: سيطرة الليبرالية الجديدة ويقصد بها انتصار إيديولوجيا اقتصاد السوق الحر ونمط الاستهلاك، وإعلام الترفيه والخصخصة وما إلى ذلك، وتقدم الديمقراطية النموذج الغربي للرأسمالية في صناعته الأمريكية.
وهو النموذج الذي حظي بدفعة قوية على أثر الانهيار المدوي للمعسكر الاشتراكي ويؤكد مؤيد العولمة أنها ستعود بالخير على الجميع، سواء من حيث النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي أو إشاعة الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان.
وكما يقول "لوبرز" أنه لا يكفي لفهم ،أو وصف عملية ظاهرة العولمة أن يتم التركيز على محركاتها الأولية، فعلى الدرجة نفسها من الأهمية، ومن أجل استيعاب دينامكيتها، يجب دراسة نتائجها وردود أفعالها والتي تتلخص في النتيجتين الرئيسيتين التاليتين:
أ- النتيجة الأولى: تقلص سيادة الدولة وتهميش دورها، ففي ظل العولمة تصبح أمور إدارة الدولة شأنا تتقاسمه الحكومة مع المنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية ،والمؤسسات المتعددة الجنسيات التي تعمل عادة وراء الستار، وأحيانا أخرى تضطر إلى أن تسفر عن دورها بصورة مباشرة.
ب-النتيجة الثانية: ردود الفعل أو العولمة المضادة من قبل الجماعات والمؤسسات، سواء تحت دوافع عرقية أو دينية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.([lxxxvii])
3-البعد السياسي للعولمة:
تعددت وتنوعت مظاهر العولمة في المجال السياسي، وأبرز هذه المظاهر هي:
1 – انهيار النظام الدولي القديم وبروز ملامح نظام عالمي جديد:
حيث استند النظام الدولي القديم إلى قطبية ثنائية، مثلتها و.م.أ. متزعمة المعسكر الرأسمالي الغربي، و الإتحاد السوفياتي (سابقا) متزعمها المعسكر الاشتراكي ، وقد شكلت مناطق العالم الثالث في ظل الحرب الباردة ساعات للتنافس والمواجهة بين القطبين ،لكن التحولات التي شهدها الاتحاد السوفياتي وبقية بلدان أوروبا الشرقية منتصف الثمانينات، والتي انتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وانهيار الأحزاب الشيوعية في تلك الدول، وقيامها بتبني التعددية السياسية، وأشكال من الديمقراطية الليبرالية والاقتصاد الحر على الصعيد الداخلي، واتجاهها نحو الانفتاح على المعسكر الغربي، والانخراط في الاقتصاد العالمي على الصعيد الخارجي هذه التحولات وضعت النهاية للنظام الدولي القديم، وأسهمت ضمن عوامل ومتغيرات أخرى الأساس لبروز نظام عالمي حديد، أفرز تطورات عدة من منظور عملية العولمة:
أولها: تمدد دور و.م.أ على الصعيد العالمي، مما حد بالبعض إلى اعتباره لعولمة مرادفا للأمركة، بمعنى سعي و.م.أ إلى إعادة صياغة النظام العالمي طبقا لمصالحها وتوجهاتها، وأنماط القيم السائدة فيها.
ثانيها: حدوث موجة ذات طابع عالمي من التحول الديمقراطي، والاتجاه نحو الاقتصاد الحر، ورغم أن بدايات هذه الموجة بدأت في منتصف السبعينات للتحول الحاصل في البرتغال، واليونان، واسبانيا، إلا أنها اتسعت خلال الثمانينات والتسعينات لتشمل العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا ووسط أوروبا ،وشرقها خلال الفترة من العام 1974 إلى العام 1994 تحولت 60 دولة شمولية إلى دول ذات أنظمة ديمقراطية.
ثالثها: ثورة المعلومات والاتصالات التي خلقت واقعا جديدا لم يعد في ظله أي نظام سياسي مهما كانت درجة سلطة أن يخفي ممارسة أو يحجب الحقائق عن العالم الخارجي، كما خلقت ما يمكن تسميته العدوى في التحول نحو الديمقراطية. ([lxxxviii])
2 – تراجع مبدأ السيادة الوطنية للدول:
إن الانتقال الحر للأفراد والسلع والخدمات والأفكار والمعلومات عبر المجتمعات والقارات الذي تم خلال التسعينات أدى إلى انحسار نسبي للسيادة المطلقة، وخلق الانطباع بأن الدولة لم تعد ضرورية وأنها فقدت دورها وأهميتها، إلا أن هناك من يرى هذه المتغيرات لم تسقط كل مظاهر (السيادة)، ولم تضع نهاية للدولة، فالعولمة سياسيا لا تعني القضاء على الدولة أو بروز الحكامة العالمية، وإنما تتضمن دخول البشرية إلى مرحلة سياسية جديدة يتم خلالها الانتقال الحر للقرارات والتشريعات والسياسات والقناعات والخيارات عبر المجتمعات والدول، بأقل قدر من القيود والضوابط متجاوزة بذلك الحدود الجغرافية للدول، وتزداد بذلك الروابط السياسية بين دول العالم على نسق غير مسبوق من قبل وتمثله الملامح التالية:
- التوسع المتزايد في إبرام الاتفاقيات الدولية الشارعة، والنظم الدولية التي تتضمن قواعد وأحكام ملزمة لعموم الدول ويمكن أن تتمثل هذه القواعد والأحكام في النقاط التالية:
أ- وجود قواعد قانونية دولية آمرة حاليا تخص بتنظيم محالات عديدة، وقد أصبحت لهذه القواعد حجية في مواجهة كافة الدول فلا يجوز بحال الاتفاق على ما يخالفها، ولو كان تحت ما يخالفها، ولو كانت تحت ما يسمى السيادة الوطنية.
ب-أصبحت و في نطاق المجتمعات الدولية نظم للرقابة والإشراف الدولي تقوم بمهام التحقيق والتفتيش، كاتفاقيات حقوق الإنسان والتسلح النووي واتفاقيات العمل.
ج- استقرار الفقه والقضاء الدولي على عدم إمكانية احتجاج الدول بدساتيرها أو بتشريعاتها الداخلية – وهي من مظاهر السيادة الوطنية – للتنصل من الالتزامات الدولية سواء أكانت ذات طبيعة تعاقدية، أو ناشئة عن أحكام القانون الدولي العام والنظم الدولية ذات الصفة التشريعية حتى وإن لم تصادق عليها الدول أو تنظم إليها.
د- الاتجاه المتنامي نحو احترام حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية ،ونحو كفالة الضمانات الدولية التي تمكن لاحترام هذه الحقوق، وتكفل عدم انتهاكها من جانب الحكومة الوطنية.
ه- الاتجاهات الحديثة في مجال تقنيين قواعد المسؤولية الدولية، والتي تجيز للأشخاص المتضررين إمكانية تحريك دعوى المسؤولية حال وقوع الضرر بغض النظر عن مدى مشروعية الفعل الذي تسبب في وقوعه.
و- الاتجاه المزايد نحو إقامة الكيانات الدولية عابرة للقوميات أو فوق قومية.
ز- بروز نوع من المشكلات الدولية التي تستلزم تكاثف الجهود الدولية وتضافر الإرادات السياسية للدول في سبيل الوصول إلى حلول ناجحة وفعالة مثل مشكلة الطاقة، التلوث، ندرة المياه، التصحر، البطالة، الجريمة المنظمة، الإيدز ....([lxxxix])
ويرى بعض الباحثين أن العولمة عملية ليست أمرا يسهل قياسه وإنما يمكن تحسسسها على عدة مستويات واحد منها سياسي وهو تآكل قوة الدولة في ثلاث مناطق تقود رئيسية هي:
1 – الدفاع: فلقد قلت الحروب بين الدول مقارنة مع الفترة الماضية عدا الحروب حول المصادر الطبيعية الثمينة كالنفط والماء، وما نلاحظه اليوم هو زيادة في الصراعات الاثنية والأهلية، وقد أدرك معظم السياسيين اليوم أن القوة ليست بابتلاع أرض جديدة وإنما الحصول على أكبر عدد ممكن من حصص الأسواق العالمية وبدأ دور الدفاع يظهر في الحفاظ على الأمن في المجتمع من العنف الداخلي أو الخارجي وعدم إعطاء أولوية لموضوع الخدمة الإلزامية العسكرية.
2 – عدم قدرة الدولة القومية على الحفاظ على قيمة عملتها الوطنية: أو مقاومتها لأسواق التحويل الخارجية، وهذا الأمر ليس نابغا من قوة التكهنات المالية في الأسواق الخارجية وإنما سبب سرعة حركة رأس المال من داخل البلدان المحلية وتأثيرها البالغ غلى قيمة العملة الوطنية وتغير معدل التحول نتيجة تجاوب السوق مع الوضع الجديد، وهذا ما حدث للعملة المكسيكية (البيزوس) عام 1994 وحمايتها التامة من الانهيار نتيجة تدخل مجموعة من المصارف الأجنبية الكبيرة.
3 – تضاؤل دور الضمان الاجتماعي: وتوفير الدولة الخدمات للفقراء والمحتاجين، واعتبارها شبكة أمان في إعادة توزيع موارد المجتمع، وكانت ظاهرة الضمان الاجتماعي الحديثة العهد عنصرا مبررا لسلطة الدولة في المجتمع وتمثل الوقت نفسه عبئا على الحكومة وعلى الاقتصاد الوطني، أما اليوم فإن النشاط الاقتصادي لا يتم دون التنافس الدولي وقوة الدولة في استخدام الحماية التجارية كسلاح اقتصادي ضد التنافس الوطني في الأسواق الوطنية بدأ يختفي تدريجيا ويفقد مفعوله محليا.)[xc](
4 - بروز منافسين جدد للدولة الوطنية: حيث كان لتراجع دور الدولة الوطنية سياسيا أثره في بروز مجوعة من القوى العالمية والإقليمية والمحلية الجديدة حلال عقد التسعينات والتي أخذت تنافس الدولة في المجال السياسي وخاصة في مجال صناعة القرارات وصياغة الخيارات، ومن أبرزها:
- التكتلات التجارية الإقليمية:- كالسوق الأوروبية المشتركة، التي تطورت خلال الأربعين سنة الماضية لتشكل وحدة نقدية تعمل من خلال المصرف المركزي الأوروبي الذي أنشأ عام 1999، وذلك بعد أن تنازلت الدول الأوروبية طوعا عن سيادتها في مجال السياسات النقدية، فإن النموذج الاندماجي الأوروبي يقوم أساسا على تخلي الدول الأوروبية الطوعي عن بعض مظاهر سيادتها لصالح الكيان المتجه نحو التوحد اقتصاديا وسياسيا ولما لا عسكريا واجتماعيا وثقافيا.
- المؤسسات المالية التجارية والاقتصادية العالمية، وأبرزها منظمة التجارة العالمية التي تشرف إشرافا كاملا على النشاط التجاري العالمي لتصبح من فرط الضخامة، والقوة قادرة على فرض قراراتها وتوصياتها على كل دول العالم دون استثناء.
- بروز المنظمات غير الحكومية على الساحة السياسية العالمية كقوة فاعلة ومؤثرة في المؤتمرات العالمية كمؤتمر قمة الأرض في ريودي جانيرو، ومؤتمر السكان في القاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين، ومؤتمر حقوق الإنسان قي فيينا وأبرز هذه المنضمات غير الحكومية: منظمات البيئة،كمنظمة السلام الأخضر، ومنظمات حقوق الإنسان كمنظمة العفو الدولية ...وقد تزايد عدد المنظمات غير الحكومية بشكل كبير خلال السبعينات وأخذت تعمل باستقلال تام عن الدول التي لم تعد قادرة على التحكم في نشاط وعمل هذه المنظمات.([xci])
5-البعد الاقتصادي للعولمة:
لا مما شك فيه، أن عولمة الاقتصاد هي الظاهرة الأكثر جلاء في مسار التطورات الجذرية التي غيرت شكل العالم في العقد الأخير، وتبدو هذه الظاهرة في مستويات عديدة من بينها نشاط ووزن المؤسسات والشركات متعددة الجنسيات، وتقلص منزلة الدولة ونمو التجارة الخارجية، وانبثاق تجمعات إقليمية في مناطق مختلفة من العالم، وانهيار الحواجز بين اقتصاديات بلدان العالم في إطار اتفاقيات دولية ملزمة.
ولنبادر بالإشارة إلى أن توحد السوق الاقتصادية الدولية يشكل محددا رئيسيا من محددات الديناميكية الرأسمالية التي ارتبطت بها التحولات الاقتصادية التي صاغت شكل العالم الحديث، وكما بين "بروديل" فإن الرأسمالية تقتضي بذاتها اختراق الحدود القطرية، والانتشار حسب فضاء اقتصادي واسع دعاه بـ "اقتصاد عالم" فالاقتصاد العالم يتميز بثلاث سمات مترابطة هي احتلال فضاء جغرافي واحد، والانتظام حول قطب أو محور غالبا ما يتمثل في مدينة ذات طاقة استقطابية واسعة (لندن و امسترادم في القرن 18م، ونيويورك مند سنة 1992، والتوزع إلى قلب ومناطق وسطية وهوامش فالعولمة من هذا المنظور تشكل تجسيدا لاتجاه التوسع الرأسمالي يتلائم والتطورات التقنية الجديدة التي حررت أدوات الإنتاج وبدلت توازنات الفضاء الاقتصادي.
ومن المهم الإشارة مع الحديث عن سمات ومظاهر عولمة الاقتصاد إلى تزامن هذه الطاهرة مع انتشار الإيديولوجية الليبرالية الجديدة التي تعززت هيمنتها بعد اندثار الماركسية وسقوط تجارب التخطيط الاقتصادي وملكية الدولة لوسائل الإنتاج.
وهكذا شهدت أطروحات مدرسة "الليبرالية الجديدة" رواجا جديدا، والمعروف أن هذه المدرسة الأمريكية التي ظهرت في الأربعينيات تركز على القيم الفردية وتدعو إلى التحرر من قبضة الدولة وتدخلها في المجال الاقتصادي، بحيث تنحصر مهمتها في وضع الإطار الذي يسمح بحرية السوق والتبادل.
فالسوق وحده يمكن أن يوزع بالطريقة المثلى العادلة الموارد والاستثمارات والشغل ويسمح بامتلاك الفرد لمصيره كما يقول "ميلتون فريدمان" ولهذه المدرسة شبكة هائلة من المؤسسات ومراكز البحث والدراسة التي تمولها كبريات الشركات الرأسمالية، كما أنها تمكنت من توجيه القرار السياسي في الولايات م.أ.وأوروبا (التجربتان الريغانية والتاتشرية) نسبة إلى ريغن ومارغري تاتشر ولا شك أن الأساس "العلمي" الذي تستند إليه المقاييس الليبرالية الجديدة هو نموذج "التوازن" المستمد من الفيزياء الحديثة، أي الاعتقاد الخاطئ أن حركة الأسواق المالية تقود بذاتها إلى الاستقرار والتوازن، ولا تتطلب أي تدخل خارجي كما لا تقوم على أي قيم أو مرجعية عقدية. ([xcii])
فهذا الوهم هو الذي تأسس عليه إحدى أخطر النزعات أصولية وانغلاقا دعاها أسطورة عالم المال "سوروس" بـ أصولية الأسواق التي تنطلق من مقاربة ابستمولوجية زائفة مفادها تماثل قوانين الطبيعة وقوانين الأداء الاقتصادي والتسيير الاجتماعي.
فإذا كان مفهوم التوازن الموروث عن فيزياء نيوتن مفيد في فهم بعض اتجاهات الاقتصاد الرأسمالي، إلا أنه لأنه يتقمص هالة امبريقية بيد أنه ليس كذلك، فالتوازن نادر في الحياة، إنه نتاج نسق تجريدي – منطقي وليس مستمدا من الواقع الحي، وذلك عل الخصوص هو شأن الأسواق المالية التي لا يمكن فصلها عن أوجه التبادل الاجتماعي والسلوك البشري في اتجاهاته المختلفة المترابطة.([xciii])
وهكذا تسعى اليوتوبيا الليبرالية، كما يوضح بورديو إلى التجسد في نمط من السوق العالمية المتوحشة، يحكمها قانون الانتخاب والانتقاء الدار ويني أو حرب الكل ضد الكل التي تحدث عنها الفيلسوف الإنكليزي هوبز في القرن 19 .وإذا كان هذا السعي له مقوماته ومبادئه التي تعرف في أيامنا رواجا متزايدا: الإيمان المطلق بحرية التبادل وتقديس سلطة السوق والبحث عن أقصى حد من المنفعة الفردية والحد من نفوذ السلطة والخصخصة الشاملة للمصالح العمومية.
لقد أصبحت الطريق ممهدة أمام المخططات التوسعية للرأسمالية صوب المزيد من السيطرة، وفي ضوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الثلاثة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية العولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارستها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة، وضد القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة، كما في الثقافة والفكر والحضارة وذلك بالاستناد إلى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن وهي:
أ – البنك الدولي:
أمسك تقرير الإدارة الخزانة الأمريكية في بداية الثمانينات بواقع الهيمنة التي مارستها و.م.أ في البنك الدولي على النحو التالي:
"كانت و.م.أ فاعلا أساسيا في تشكيل هيكل ورؤية البنك الدولي وفقا لخطوط غربية يوجهها السوق .... وكنا أيضا مسؤولين عن وجود شركات ذات وزن تصويتي يديرها مجلس مدراء ترأسه إدارة ذات مستوى رفيع من موظفين أمريكيين مؤهلين تأهلا مهنيا عاليا، وحصلت و.م.أ باعتبارها طرفا رئيسيا في عقد تأسس البنك وصاحبه نصيب كبير في ميزانيته على الحق في مقعد دائم في مجلس المدراء."([xciv])
وتنبع قوة اتخاذ القرار الرسمي من حجم رأس المال المدفوع كاشتراك، ولدى تأسس البنك فقط، وهو ما يزيد على 15% ولكن الآن تحظى و.م.أ.بـ 17.6% من ميزانية البنك فقط، وهو ما يزيد على 15% الضرورية لكي يكون لها حق الفيتو على قرارات الإقراض الرئيسية وحافظة و.م.أ بحماس على وضعها المتفوق الذي وفرته لها أنصبتها في رأسمال البنك، ورغم أن اليابان كانت تضغط من أجل نصيب أكبر في رأسمال البنك نجحت و.م.أ في وضع حد لمساهمتها وقوتها التصويتية عند حدود 8% فقط.
وحصلت القوة الرسمية الأمريكية على دعم من آليات غير رسمية فتقليديا كان رئيس البنك مواطنا أمريكيا تعينه الإدارة الأمريكية بينما يقع مقر البنك في واشنطن وهو ما يجعل وصول إدارة الخزانة الأمريكية له سهلا، ويوفر للمواطنين الأمريكيين ربع عدد كبار موظفي الإدارة ومن المستوى الوظيفي الأعلى.
وتوفر الآليات الرسمية وغير الرسمية وضعا يدرك فيع فاعلون آخرون سواء من الإدارة أو المانحين الرئيسيين، ومتلقي المنح أن و.م.أ أصوت رئيسي في بنوك التنمية الجماعية المتعددة الأطراف، فهم يعرفون كما تقول إدارة الحزينة الأمريكية أننا قادرون وراغبون في إتباع سياسة الأهداف المهمة في البنوك باستخدام القوة المالية السياسة التي نتوفر عليها.
وفي دراسة دول أهم أربعة عشرة قضية أثارت نقاشا في البنك بدءا من إعاقة منح منظمة التحرير الفلسطينية موقع مراقب إلى وقف مساعدات البنك لفيتنام وأفغانستان، كان بمقدور و. م. أن تفرض وجهة نظرها على سياسات البنك عشر حالة.
وأصبح البنك الدولي سلاحا مهما في السياسة العالمية الأمريكية من وجهة نظر إدارة الخزانة وفي واقع الأمر لم تكن كل المساعدات الثنائية ولا التدفقات على القطاع الخاص – إذا كان ذلك ممكنا – ذات فعالية وتأثير في الدول الأقل نموا مثلما كانت فعالية وتأثير البنوك التنموية المتعددة الجنسيات وكما وضح الأمر تحليل أجرته إدارة البحوث في الكونغرس، فإن ميزة البنك الدولي وبنوك التنمية المتعددة الجنسيات من وجهة النظر الأمريكية هي أنها تنجح عادة في تحقيق المهمات الصعبة حين تطالب بوضع معايير للأداء يلتزم بها المقترضون، وهي مهمة تتردد و. م. أ والمقرضون الآخرون في فرضها في حالة العلاقات الثنائية.
ب – صندوق النقد الدولي:
الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي، ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية.([xcv])
ومثلما هو الحال مع البنك الدولي تسيطر الاقتصادات المتقدمة على صندوق النقد الدولي حيث تحظى هذه الدول بنسبة 45.47% من الأصوات في مجلس حكام البنك، وتأتي و. م. أ في المقدمة بنسبة 19% من هذه الأصوات، ولما كانت الدول الغنية الأخرى تحظى بـ 21.42% من الأصوات فإن الدول المتقدمة كمجموعة تحظى بالقوة التصويتية التي تمكنها من وقف كل القرارات التي تحتاج لأغلبية، وحين طالبت الدول النامية بأن يكون لها قول أكبر في اتخاذ القرار دفعت الدول المتقدمة في اتجاه الوصول إلى التعديل الثاني في مواد الاتفاقية هو تعديل دخل في تفصيلات ثلاثة وخمسين قرار تحتاج لإقرارها إلى أغلبيات سوبر ما بين 70% و85% وترجمة ذلك هو أن المجموعات الفرعية للدول المتقدمة تمتلك القدرة على وقف القرارات التي تحتاج إلى 70% و85% من الأغلبية.
كذاك جرى حماية الوزن الخاص للولايات المتحدة الأمريكية بخلق قواعد جديدة وهي العملية التي فصلتها مقالة مهمة كتبها "ريتشارد ليفر" وليونار سيبروك" ففي بداية السبعينات تراجعت القوة التصويتية للولايات المتحدة الأمريكية من 30% وأخذت تتجه بسرعة نحو 20% لحماية القرارات الخاصة، وكانت اليابان ودول أخرى تبحث وتتطلع إلى تغيير في القوة التصويتية حتى تعكس وزنها المتعاظم في الاقتصاد العالمي، وهو الشيء الذي لم تكن واشنطن تطيقه.
ويقول المقال: أنها أي الولايات المتحدة الأمريكية وضعت جدارا من الحجر أمام أي إعادة نظر في الحصص وقادت العملية على هذا الأساس ولكن في النهاية كانت هناك صفقة مع اليابانيين والأوروبيين وكانت القوة التصويتية لأمريكا قد انخفضت فعلا إلى 19% ولكن متطلبات الأغلبية السوبر من أجل القرارات الخاصة قفزت بها إلى 85% وكانت هذه الحركة المزدوجة الاستثنائية مقدمة لتعامل مشابه داخل البنك الدولي بعد عقد من الزمان، وهكذا جرى وضع معيار بالغ الأهمية لتوزيع القوة السياسية التي تحكم الصندوق أثناء أزمة الديون الأمريكية اللاتينية والآسيوية ولأنه لم توجد شفافية أبدا في صندوق النقد الدولي فإنه لم يؤد خدمة للديمقراطية بل على العكس أساء إليها، فرغم أن للأعضاء حقوقا تصويتية، كان من النادر أن يحدث تصويت رسمي سواء في مجلس المدراء التنفيذي أو في مجلس الحكام، وفي ظل إدارة الرئيس كلينتون وطيلة حكم هذه الإدارة تقريبا وحيث جرى اتخاذ ألفي 2000 قرار لم يجر التصويت إلا على إثنى عشر 12 قرارا تقريبا وبدلا من ذلك كان يجري اتخاذ القرارات بالتوافق. ([xcvi])
ولاحظ "نيجيروود" أن التوافق الذي مارسه الصندوق لم تكن له أية دلالات ديمقراطية وقد أصبح هذا التوافق غطاء للخلل في علاقات القوة غير المتساوية وهو انعدام المساواة الذي يظهر في شكل تصويت رسمي، ذلك أن هناك محرك لهذه القوى الرسمية تعرفه وتدرك أبعاده كل الأطراف المشاركة في اللقاءات، وهناك سبب آخر يتمثل في أن الحكومات والمنظمات غير الحكومية التي لم تكن حاضرة في مثل هذه الاجتماعات تجد صعوبات بالغة في تحديد ما الذي ظهر وما لم يظهر ويمس الشفافية والمسؤولية.
ورغم أن رئيس الصندوق هو تقليديا أوروبي فإنه خاضع خضوعا نسبه مطلق لوزارة الخزانة الأمريكية وبينما كان الصندوق منخرطا في عملية انقاد المكسيك 1994 – 1995 ودول جنوب شرق آسيا 1997 اعتبر الكثيرون المدير التنفيذي للصندوق "مايكل كا مديسوس" وكيلا صغيرا للو. م. أ ولكل من وزير الخزانة الأمريكي "روبرت روبن" ومساعده "لارى سومرز".
وكانت المهمات والوظائف الخاصة التي يقوم بها الصندوق لصالح و. م. أ هي التي دفعت الأخيرة للوقوف ضد إنشاء صندوق النقد الأسيوي الذي كانت اليابان قد اقترحته أثناء اجتماع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في "هونج كونج" في سبتمبر 1997.
ج – منظمة التجارة العالمية:
وهي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية، تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف إلى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني لا يتجاوز عام 2005. بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسيات.
فالمؤسسة الدولية الأساسية التي تقود جدول أعمال الليبرالية الجديدة هي منظمة التجارة العالمية، تشكلت منظمة التجارة العالمية في العام 1995 بعد إتمام جولة أوروغواي في محادثات الاتفاقية العامة للتعريفية اجمركية التجارة في السلع المصنعة والمواد الخام، والخدمات الزراعية، وحقوق الملكية الفكرية وتضم أكثر من 150 بلد عضو، وأهم إضافة حديثة كانت الصين التي اعتبر انضمامها في ديسمبر 2001 لحظة مهمة في تاريخ الرأسمالية العالمية نظرا لالتزام الحكومة المستمر بشيوعية الدولة، وتعتبر المنظمة ظاهريا ديمقراطية وتستقبل كل دولة صوتا واحدا في الأمور الأساسية على الرغم من أنه معروف جيدا أن الاقتصادات الكبرى لها الصوت الأقوى عمليا. ([xcvii])
لقد صور أنصار منظمة التجارة العالمية أثناء التصديق على عملية إنشائها الأمر باعتبارها منظمة صوت لكل بلد حيث تكون و. م. أ مثلها مثل رواندا لها صوت واحد، لكن واقع الأمر هو أن منظمة التجارة العالمية لا تدار ديمقراطيا حيث لكل بلد صوت واحد شأن الجمعية العامة للأمم المتحدة على سبيل المثال ولا هي تدار بنظام النقل التصويتي مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بل أنها طبقا لدستورها هي صوت لكل بلد، ومع ذلك فالتوافق هو العملية التي تحكم منظمة التجارة العالمية، وهو نظام استعارته المنظمة الجديدة من "اللغات" القديمة التي كان آخر تصويت فيها قد جرى عام 1959.
جوهريا، تراقب منظمة التجارة العالمية ما إذا كانت الدول الأعضاء تتبع قواعد التجارة الحرة أم لا، وإذا لم تفعل فإن للمنظمة سلطة فرض سلطة غرامات وعقوبات، وللمنظمة الحق في عقد اتفاقات ملزمة قانونا مما يجعلها مختلفة عن نظام الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، إن منظمة التجارة العالمية قوية جدا ومؤيدة لليبرالية الجديدة، وقد أصبحت مصدر اختلاف أساسي، وهناك نقد متزايد في الحياة الأكاديمية.
والمجتمع المدني بصفة أعم، بأنها قطعية جدا ومنحرفة جدا نحو مصالح الشركات العابرة للقوميات، على هذا النحو كانت هدفا لاحتجاجات عديدة من قبل المجموعات المناهضة للعولمة، بل لقد انتقدت حتى من طرف المقربين مثل "جوزيف ستيفليز" كبير الاقتصاديين سابقا بالبنك الدولي الذي ادعى أنها قد أصبحت غير ديمقراطية و بيروقراطية، و تفوض حقوق سيادة الحكومات القومية.
وفي هذا السياق اعترفت الممثلة التجارية لو. م. أ "شاولين بارشفسكي" أن منظمة التجارة العالمية تجاوزت الأساليب التي كانت مناسبة لمرحلة سابقة ويتشارك الأعضاء في وجهة نظر ترى أن المنظمة باتت تحتاج إلى إجراءات جديدة تتسم بشفافية داخلية أعظم وإدماج لعدد اكبر وأكثر تنوعا من الأعضاء الجدد، وقد أيد وزير خارجية بريطانيا"ستيفن بابرز" هذا المنحنى قائلا أن منظمة التجارة العالمية لن تكون قادرة على الاستمرار بالطريقة القائمة ولا بد من تغيرات جذرية وأساسية حتى تصبح المنظمة قادرة على تلبية احتياجات وتطلعات عضويتها المكونة من 150 دولة .
يضاف إلى هذه المؤسسات الدولية المشكلة لظاهرة عولمة الاقتصاد، الشركات المتعددة الجنسيات أو الشركات العابرة للقوميات التي تعرف بأنها شركات لها قوة التنسيق والتحكم في العمليات في أكثر من بلد، حتى وإن كانت لا تملكها وعادة ما تشارك في شبكة عنكبوتية من العلاقات التعاونية مع شركات أخرى مستقلة قانونيا عبر الكوكب، والشركات العابرة للقوميات لا يمكن تقليصها فقط إلى الاستثمار الأجنبي، وما هو حاسم هو القدرة على القيادة والحكم في سلاسل ومركبات الإنتاج، قد يحقق هذا من خلال الملكية المباشرة للأجزاء المختلفة من مركبات الإنتاج، وقد يشمل أيضا التعاقد الفرعي بالإضافة إلى وسائل أخرى من التأثير رسمية بدرجة أقل، تعمل هذه الشركات على مستوى عالمي وتتحمل مسؤولية نسبة مرتفعة من تدفقات العالم فيما يخص التجارة والاستثمار والمعرفة ونقل المهارات والتكنولوجيا. بين خمس وربع كل الإنتاج في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة تتحملها الشركات العابرة للقوميات، ونسبة كبيرة من تجارة العالم هي تبادل داخل الشركات (أكثر 50 في حالة التجارة بين و. م. أ أو اليابان مثلا )، ولهذه الشركات عدة خصائص أهمها: ([xcviii])
أ – إندماج وظيفي:
من حيث البحث والتنمية، والإنتاج والاستثمار والتسويق والمبيعات بقياس عالمي، تجد داخل شركة عابرة للقوميات موقع أجزاء عديدة من الشبكة أو مركب الإنتاج في مواقع عالمية مختلفة، في الماضي كان لهذا التقسيم الفضائي للعمل أن يحدث على مستوى قومي فقط.
– مصادر عالمية:
قدرة على الاستفادة من الاختلافات الجغرافية في توزيع عوامل الإنتاج (العمل، والرأسمال والموارد، والمعرفة)، وسياسات الدولة (التنظيمات، والروم الجمركية، والضرائب).([xcix])
- مرونة جغرافية:
قدرة على تحويل مواردها وسهيلاتها المهمة التي لها علاقة بالعمل إلى مواقع مختلفة، وعلى العموم تتطور الشركات العابرة للقوميات إما من خلال الاندماج العمودي أو الأفقي، وبعضها قد يتطور من خلالها معا.
ب-الاندماج الأفقي:
يحدث عندما تحاول شركة ما أن تكسب تحكما أكبر في السوق لأجل منتوجها بتولي الإنتاج أو توسيعه في المرحلة نفسها من الإنتاج التي تضم أعمالها المركزية، وقد يحدث هذا من خلال شراء الشركات في تلك المرحلة نفسها أو الارتباط بها من خلال وسائل رسمية أقل وغالبا ستفضل الشركات التجارة في الخارج بدل الاستثمار مباشرة، وستقوم بالاستثمار المباشر إلا إذا تجاوزت فوائد موقع أساس في الخارج فوائد التصدير هناك، والاندماج الأفقي أو التوسع من هذا النوع مسؤول عن نمو "النزعة الاستهلاكية العالمية" من خلال توسيع شركات الخدمات العابرة للقوميات كشركات المشروبات الوجبات السريعة مثل "كنتاكي" وماكدونالذر و"بيبسي" مع ذلك قاد الإدماج الأفقي أيضا التوسوع العالمي للقطاعات الآتية: صناعة السيارات (نسيان، جنرال موتورز، وفورد)، وخدمات الحاسبات الدولية، ووكالات الأخبار وبائعي الكتب، ومنافذ البيع بالتجزئة والصناعات البنكية.
ج-الاندماج العمودي:
يحدث عندما تحاول الشركات كسب التحكم في المراحل المختلفة في عملية الإنتاج إما من المنبع (التمويل) أو من من المنصب (التوزيع أو السوق)، بقاء الإدماج العمودي من قبل محاولات الشركات العابرة للقوميات تقليص المخاطرة، ويأخذ بعض الاندماج العمودي شكل الملكية المباشرة للمراحل المختلفة من الإنتاج بما أن هذا يمكنه تقليص "كلفة صفقات" العقود.
ويمكن القول أن عاملان رئيسيان سهلا ظهور وانتشار الشركات العابرة للقوميات خلال المرحلة الليبرالية الجديدة للعولمة، أولا دعم التنقل المتزايد للرأسمال في الأسواق الحرة لهذه المؤسسات، وثانيا جعل التقدم في تكنولوجيا الاتصالات والنقل أخد القرار ممكنا على مسافة بعيدة جدا، لقد أصبحت البيانات والتحكم ممركزة، بينما أصبحت العمليات لا مركزية بشكل كبير، بهده الطريقة كانت الشركات قادرة على تخفيض مغامراتها بينما رفعت من المرونة.([c])
مخاطر العولمة:
مخاطر العولمة على الجانب الثقافي: هيمنة ثقافة الدول الكبرى وفرض ثقافتها بوسلائل ناعمة عن طريق الاعلام جعل المجتمعات الضعيفة تعيش التبعية والتقليد والتنصل من الهوية مما خلق صراع داخل هذطه الدول بين المؤيديين للعولمة والحضارة الغربية، وبين المحذرين والمتمسكين بهويتهم.
مخاطر العولمة على الجانب الاجتماعي: أثرت العولمة على المجتمعات الضعيفة سلبا لذلك أن الريادة وصنع السياسات الاجتماعية باتت حصرا على الدول الكبرى التي توجه ثقافتها وسياستها لتحقيق مصالحها تحت منظماتها ومؤسساتها وهيئاتها المهيمنة على العالم، فاثارة الحروب واستغلال ثروات الشعوب الضعيفة والتدخل السافر في شؤونها الداخلية تحت غطاء الديمقراطية وحقوق الانسان جعل هذه المجتمعات تعيش نكسات وانحلال اجتماعي فظهرت العنوسة والبطالة والفقر والهجرة الغير الشرعية...الخ.
مخاطر العولمة من الجانب السياسي:
14- فرض السيطرة السياسية الغربيَّة على الأنظمة الحاكمة والشعوب التابعة لها، والتحكُّم في مركز القرار السياسي وصناعته في دول العالم لخدمة المصالح الأمريكية والقوى الصِّهْيَوْنِيَّة المتحَكِّمة في السياسة الأمريكية نفسها، على حساب مصالح الشعوب وثرواتها الوطنية والقومية وثقافتها ومعتقداتها الدينية.
15- فالعولمة نظام يقفز على الدولة والوطن والأمة، واستبدال الإنسانية بذلك ، إنَّها نظام يفتح الحدود أمام الشبكات الإعلامية، والشركات المتعددة الجنسيات، ويزيل الحواجز التي تقف حائلاً دون الثقافة الرأسمالية المادية والغزْو الفكري، الذي يستهدف تفتيت وحدة الأمة، وإثارة النعرات الطائفية، وإثارة الحروب والفتَن داخل الدولة الواحدة كما في السُّودان.
16- إنّ العولمة لا تكتفي بواقع التجزئة العربية والإسلامية الآن، بل تحاول إحداث تجزئة داخلية في كل بلد عربي أو إسلامي، حتى ينشغلوا بأنفسهم وينسوا تمامًا أنهم أمة عربية واحدة، ينتمون إلى جامعة إسلامية واحدة.[ci]
[i] السيد عبد العاطي السيد،الايكولوجيا الاجتماعية مدخل لدراسة الإنسان والبيئة والمجتمع،دار المعرفة الجامعية،السكندرية،،1998دون ط، ص37.
[ii] فتيحة طويل،التربية البيئية ودورها في التنمية المستدامة أطروحة دكتوراه، قسم علم الاجتماع، جامعة بسكرة،2012/2013،ص 148.
[vi] فتيحة طويل، مرجع سابق، ص148.
[vii] H.E.Barnes(Ed), an introduction to the history of sociology, the University of Chicago, 1984, p48.
[viii] عبد الرءوف الضبع، علم الاجتماع وقضايا البيئة، مدخل نظري ودراسات واقعية، دار الوفاء لنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2004، ص10.
[ix]أنظر عاطف معتمد عبد الحميد، الجيوبوليتيك طمع السياسة يشوه علما، http://alarabnews.com/alshaab/GIF/09-01-2004/a5.htmتاريخ السحب2014
[x] أنظر عاطف معتمد عبد الحميد، الجيوبوليتيك طمع السياسة يشوه علما، http://alarabnews.com/alshaab/GIF/09-01-2004/a5.htmتاريخ السحب2014.
[xi] -إبراهيم حسان، تلخيص كتاب علم الاجتماع البيئي http://anthro-world.ahlamontada.net/t1379-topic، 2014،ص1.
[xiii] Beaulieu, Agnès. L’Environnement, outil de lutte contre l’exclusion desjeunes. Possible, 2001, 25(1):56–60.
[xv] ابراهيم حسان، مرجع سابق، ص1.
رابح كعباش، الاتجاهات الأساسية في علم الاجتماع، مخبر علم اجتماع الاتصال جامعة منتو ري، قسنطينة،2007، ص37.-[xx]
[xxi] E. Durkheim, De la division du travail social, Paris, PUF, 2007
[xxii] ابن منظور، لسان العرب، الدار المصرية للتأليف و الترجمة، القاهرة، الجزء الأول، بدون تاريخ، ص 27.
[xxiii] رمضان عبد الحميد الطنطاوي، التربية البيئية تربية حتمية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2008، ص207.
[xxiv] علي بن هادية وآخرون، القاموس الجديد للطلاب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1974، ص ص 18 24.
- راتب السعود، الإنسان والبيئة، دراسة في التربية البيئية، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 2007، ص 18 .[xxviii]
[xxx] نفس المرجع، ص20 .
[xxxi] -نفس المرجع، ص21 .
-منى محمد علي جاد، التربية البيئية في الطفولة المبكرة وتطبيقاتها، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، 2004، ص38.[xxxii]
-حسين مصطفى غانم، الإسلام وحماية البيئة من التلوث، في سلسلة البحوث الإسلامية، السعودية، بدون ط، 1997، ص20.[xxxiv]
[xxxviii] -أحمد يحي عبد الحميد، مرجع سابق، ص153.
[xliv] -السيد عبد العاطي السيد، الإنسان والبيئة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 1999، ص ص 105، 106
[xlv] سامح غرايبية ويحي الفرحات، مرجع سابق، ص174.
[xlvi]محمد السيد عامر، المشاركة الشعبية لحماية البيئة من منظور الخدمة الاجتماعية، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2002، ص.ص، 199، 201.
[xlix] Ridha Armand , problème d’environnement , entreprise pour l’environnement, paris ,1996 ,p19.
[l] Ibid. ,p33.
[lvi]محمد أمين عامر ومحمود سليمان، تلوث البيئة ومشكلة العصر، دراسة علمية حول مشكلة التلوث وحماية صحة البيئة، دار الكتاب الحديث، مصر، ط2، ص ص 273. 274.
https://journals.openedition.org/insaniyat/15322 الهجرة غير الشرعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط (المخاطر واستراتيجيات المواجهة) [lvii]
[lx] الجزيرة، أسباب الهجرة الغير الشرعية، نوفمبر 2022 https://www.aljazeera.net/2005/03/11/
[lxi] مريم لمام،الهجرة الغير الشرعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، (المخاطر واستراتيجيات المواجهة)،المجلة الجزائري في الأنتربولوجيا والعلوم الاجتماعية، 2015، ص ص 69-70، https://journals.openedition.org/
[lxii] موسوعة أراجيك، أسباب الهجرة الغير الشرعية، (07 جويلية 2022)، تاريخ سحب المقال 24 نوفمبر 2022، https://www.arageek.com/l/
جامعة الدول العربية، وقائع في مسيرة الجامعة، 06/11/2022،http://www.leagueofarabstates.net/ar/aboutlas/Pages/HistoricalOverView.asp [lxiii]
وكالة الأنباء الجزائرية،إعلان الجزائر المنبثق عن القمة العربية، https://www.aps.dz/ar/algerie/134070-2022-11-02-14-43-54 [lxiv]
[lxv] - منظمة الصحة العالمية، فيروس كورونا، (13 نوفمبر 2022)، https://www.who.int/ar/health-topics/coronavirus#tab=tab_1
[lxvi] الأمم المتحدة، كوفيد 19والتعليم العالي: مقابلة مع الدكتور مايكل كروجر،( نوفمبر 2022). https://www.un.org/ar/115986
[lxvii] البنك الدولي، الأثار الاقتصادية لأزمة فيروس كورونا(كوفيد19)، تقرير عن التنمية في العالم 2022: التمويل من أجل تحقيق تعافٍ منصفٍ،. https://www.albankaldawli.org/ar/publication/wdr2022/brief/chapter-1-
[lxviii] الأمم المتحدة، الجريمة المنظمة، توفمبر 2022، https://www.unodc.org/romena/ar/organized-crime.html.
مؤشر الجريمة المنظمة العالمي(2021)، ص 143، https://ocindex.net/assets/downloads/global-ocindex-report-arabic.pdf global initiative[lxix]
[lxx] بن عمارة محمد، مفهوم الجرينة المنظمة دوليا ووطنيا، ص 6-7، https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/187/2/4/35030.
، مكافحة الجريمة المنظمة، نوفمبر 2022، https://www.diplomatie.gouv.fr/ar/politique-etrangere-de-la-france /lutter-contre-la-criminalite-organisee/ Ministère de l’Europe et des affaires étrangères[lxxi]
، مكافحة الجريمة المنظمة، نوفمبر 2022، https://www.diplomatie.gouv.fr/ar/politique-etrangere-de-la-france /lutter-contre-la-criminalite-organisee/ Ministère de l’Europe et des affaires étrangères[lxxii]
[lxxii]
، مكافحة الجريمة المنظمة، نوفمبر 2022، https://www.diplomatie.gouv.fr/ar/politique-etrangere-de-la-france /lutter-contre-la-criminalite-organisee/ Ministère de l’Europe et des affaires étrangères [lxxiii]
[lxxiv] زيد بن محمد الرماني، الفقر حقيقته وأسبابه، دار الورقات العلمية للنشر والتوزيع، الرياض، 2005، ص 12-13-14
[lxxv] الأمم المتحدة، القضاء على الفقر، نوفمبر 2022، https://www.un.org/ar/global-issues/ending-poverty
[lxxvi] زيد بن محمد الرماني، مرجع سابق، ص 12-13-14.
[lxxvii] الجزيرة، ظاهرة الفقر في العالم...معضلة تنذر بالخطر، نوفمبر 2022،https://www.aljazeera.net/opinions/2004/10 -2
[lxxviii] مجلة الجيش: الدفاع الوطني اللبناني، الفقر ظاهرة اقتصادية اجتماعية مقلقة هل سلمت منها الدول العربية؟ العدد 64، نيسان 2008، https://www.lebarmy.gov.lb/ar/content
([lxxix]) كعواش عبد الرحمان، الثقافة في زمن العولمة بين التنوع والنمذجة: اشكالية الصراع، التبادل والدفاع في ظل تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال، أطروحة دكتوراه في علوم الاعلام والاتصال، كلية الاعلام والاتصال، جامعة الجزائر03، الجزائر، ص89-90.
[ci] عامر الأسمري، خطر العولمة علينا،28/012010، تاريخ السحب 15/12/2022، https://www.alukah.net/sharia/0/9440/
- Enseignant: Fatehallah Messad