بسم الله الرحمان الرحيم

سوف نقدم لطلبة السنة الثالثة تخصص الكتاب والسنة المحاضرات الثامنة في مقياس القراءات القرآنية من تقديم أستاذ المادة أ.رابح دفرور

ملاحظة هامة: مجموع ما في هذه المحاضرات مرجعه ومصدره كتاب مباحث في علم القراءات القرآنية للمؤلف استاذ المادة أ. رابح دفرور.

بسم الله الرحمان الرحيم

المحاضرة الثامنة:

جمع القراءات القرآنية.

لم يكن جمع القراءات القرآنية في ختمة واحدة معمولا به ولا معروفا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يرد في الأثر ذكره، ولا إشارة إليه، وكان حسب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ الآيات فور نزولها فيتلقاها عنه كتبة الوحي , والحفظة من الصحابة , وكان حسب الصحابة أن يراجعوه كلما أشكل عليهم الأمر. وبعد النبي صلى الله عليه وسلم اختار القراء من الصحابة لأنفسهم حروفا قرأوا بها وأقرأوا غيرهم . فصار يقال:حرف أبي وحرف ابن مسعود.. وغير ذلك.

واستمر الأمر على هذه الحال حتى القرن الخامس الهجري حيث ظهر علماء القراءات كأبي عمرو الداني و ابن شيطا و الأهوازي و الهذلي و غيرهم و كان هؤلاء لا يتقيدون بحرف معين و إنما جمعوا كل ما صح عندهم من القراءات واتخذوا مجالس للإقراء يقرئون بها , وجعل الناس يرحلون إليهم من كل حدب وصوب للسماع منهم و القراءة عليهم، فكان مقتضى ذلك أن يجمع القارئ عدة قراءات لأئمة مختلفين في ختمة واحدة تسهيلا للأداء واختصارا للوقت[1].

وجمع القراءات في ختمة واحدة لم يسلم من الانتقاد والرد حيث اعتبره بعضهم أمرا محدثا لا يجوز في كتاب الله، ولا يقرأ كتاب الله إلا على الوجه الذي به أنزل.

 وما عنيناه في هذا الفصل هو معرفة خلافهم في ذلك وبيان الرأي الراجح فيه من خلال المسائل التالية.

حكم جمع القراءات

لقد اجمع العلماء قاطبة على أن القراءة بإفراد القراءات أمر لا يخاف فيه , ذلك لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعادة أصحابه رضي الله عنهم و من جاء بعدهم , بينما اختلفوا في حكم القراءات في ختمة واحدة , فذهبوا مذاهب ثلاثة , منهم المجيز لجمع القراءات بإطلاق , ومنهم المانع لها بإطلاق , ومنهم  المفصل بحسب أحوال القراءة , وتفصيل ذلك ما يلي:

أولا القول بالمنع مطلقا

ذهب أصحاب هذا القول إلى المنع مطلقا التزاما بما جاء عن الائمة الأقدمين حيث كانوا إذا قرأوا بالرواية لا ينتقلون إلي غيرها حتى يتموا الأولى . قال الإمام ابن الجزري": ولقد كانوا في الحرص و الطلب بحيث إنهم يقرأون بالرواية الواحدة على الشيخ الواحد عدة ختمات لا ينتقلون إلى غيرها"[2]. وكان هذا ما فعله الأستاذ أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني حيث ختم على شيخه أبي بكر القصري تسعين ختمة كلما ختم واحدة أتى بالأخرى حتى أكمل ذلك في عشرين سنة . وأيضا هو فعل ابن مجاهد مع تلاميذه و ابن سوار وغيرهم الكثير ...

وذهب إلى القول بهذا جماعة منهم القاضي جمال الدين القابسي صاحب الحاوي القدسي  الذي نقل عنه قوله ":و قراءة القران بقراءات معروفة أو شاذة دفعة واحدة بترجيع الكلمات مكروهة"[3]

ومهم أيضا العلامة ابن الجوزي في كتابة تلبيس إبليس حيث قال ":و منهم من يجمع القراءات فيقول ملك , مالك , ملاك . وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقران عن نظمه"[4]

ولقد ناصر هذا القول ممن جاء بعد ابن الجوزي علي النوري الصفاقسي حيث قال في كتابه غيث النفع ":و كان بعض الائمة ينكره من حيث أنه لم يكن عادة السلف قلت : وهو الصواب إذ العلوم إن الحق و الصواب في كل شيء مع الصدر الأول"[5]. وهو بعبارته هذه يصرح أنه من منكري الجمع في الختمة الواحدة.

وأقوى الادلة التي اعتمدها هؤلاء الأئمة أن الجمع في ختمة واحدة أمر محدث , فهو بدعة لم يكن عليها السلف, وأن القرآن لم يرتل بهذه الصورة .

وهذا الدليل على قوته ظاهر إلا أنه لا يمس لب مسألة الخلاف حيث أن القراءة بالجمع قرأ رسول صلى الله عليه وسلم بإفرادها, وترك السلف لها لعدم حاجتهم إليها ,لا يعد مانعا من القول بها , خاصة و أنه لم يرد عنهم ما يمنع القارئ من أن يكرر الآية مرات يستوفى ما ورد فيها من الاوجه .

وأما قول صاحب الحاوي القدسي، وقول ابن الجوزي فهما قولان يخصان نوعا من أنواع الجمع بين القراءات وإحدى كيفياته , وهو الجمع بالكلمة , وليس يفه منهما المنع على الاطلاق.

ثانيا القول بالجواز مطلقا

وذهب قوم آخرون إلى القول بالجواز مطلقا سواء كان ذلك حال التقي للقراءات أم في غيره . ومن القائلين بهذا القول صاحب كتاب هدية القراء و المقرئين الذي نقل جواز ذلك عن الائمة القراء الذين جاءوا بعد المائة الرابعة .

و أيد هذا القول بعض المتأخرين أيضا واعتبروا ذلك مما يتيسر من قراءة القرآن، فقد قال الدكتور عبد العزيز القارئ": وجمع القراءات لا أرى مانعا شرعيا في الأخذ به عند قراءة القرآن مطلقا في الصلاة  خارج الصلاة..."[6].

واستبدل أصحاب هاذا الرأي بأنه عمل القراء منذ القرن الخامس الهجري حتى يومنا هذا دون أن ينكره أحد من الائمة , وهو ما اعتبروه إجماعا على جواز الجمع , وعدم وجود دليل صريح يمنع قبوله وجوازه.

وهذا الدليل لا يستقيم على إطلاقه حيث إن جمهور القراء لم يجيزوا الجمع إلا بشروط, وما إجماعهم على الجواز إلا بتلك بشروط .

ثالثا القول بالجواز حال التلقي فقط

وهذا القول يمثل قول الجمهور من القراء منذ المائة الخامسة . قال ابن الجزري: "إلى أثناء المائة الخامسة عصر الداني و ابن شيطا و الأهوازي و الهذلي ومن بعدهم , فمن ذلك الوقت ظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة واستمر إلى زماننا وكان بعض الائمة يكره ذلك من حيث إنه لم تكن عادة السلف عليه, ولكن الذي استقر عليه العمل هو الأخذ به والتقرير عليه وتلقيه بالقبول، وإنما دعاهم إلى ذك فتور الهمم وقصد سرعة الترقي والانفراد"[7]

وقال:" أيضا ظهر لي أن الإقراء بالجمع ظهر من حدود الأربعمائة وهلم جرا وتلقاه الناس بالقبول وقرأ به العلماء وغيرهم لا نعلم أحدا كرهه, أقرأ به الحافظ أبو عمرو الداني ومكي القيسي وابن مهران وأبو القاسم الهذلي وأبو العز القلانسي والحافظ أبو العلاء الهمذاني والشاطبي، و ممن قرأ به من المتأخرين الإمام الحافظ أبو شامة والإمام المجتهد أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي والإمام الجعبري.[8]

وسوغ هذا القول عند أصحابه قصد سرعة الترقي والانفراد و التيسير على الناس حيث ضعفت العزائم وكثرت المشاغل و الصوارف عن القراءات وجمعها.

و لقد اعتبر اببن الجزري أن الخلاف في هذه السألة حسوم, وأنه لا عبرة بقول من قال بغير الجواز حال التلقي. وقرر ذلك في قوله : " ولكن الذي استقر عليه العمل هو الأخذ به والتقرير عليه وتلقيه بالقبول"[9].

 وعلل ذلك بقوله: "وإنما دعاهم إلى ذلك فتور الهم وقصد سرعة الترقي والانفراد"[10]

و استشهد أيضا بوقع القراء الذي يشهده مع شيوخه حيث كانوا يقرئون بالجمع في الختمة الواحدة , ولم ينكر أحد نه ذلك.

ويشترط لمن أراد الجمع أن يفرد القراءات أولاً حتى إذا ضبطها وأتقنها جمعها، وينقل هذا الشرط عن شيوخه فقال ابن الجزري:"...ولم يكن أحد من الشيوخ يسمح به إلّا لمن أفرد القراءات, وأتقن معرفة الطرق والروايات, وقرأ لكل قارئ ختمة على حده"[11] ويمثل لذلك بقوله:"...إذا أراد قراءة ابن كثير مثلاً يقرأ أولا ختمة برواية البزي, ثم ختمة برواية قنبل, ثم يجمع البزي وقنبل في ختمة وهكذا."[12]

واعتبر ابن الجزري جمع القراءات دون إفرادها تساهلاً  في الأخذ فقال:" وكان الذين يتساهلون في الأخذ يسمحون أن يقرأوا لكل قارئ من السبعة بختمة سوى نافع وحمزة فإنهم كانوا يأخذون ختمة لقالون ثم ختمة لورش ثم ختمة لخلف ثم ختمة لخلاد""[13]. وفي الجملة فإن ابن الجزري يرى جواز الجمع في ختمة واحدة بشرطين هما:

1-أن يكون ذلك حال التلقي حيث أن كل ما قاله ونقله عن الأئمة كان في معرض التلقي.

2-أن يسبق جمع القراءات إفرادها واحدة واحدة حتى إذا أتقنها القارئ ساغ له جمعها.

وتبدو  وجاهة هذا الرأي في كونه يسلم من الاعتراض المتمثل في بدعية الجمع ومخالفة السلف فيه حيث لم يقل أصحاب هذا القول بذلك في العبادات المحضة كالتلاوة-تعبداً- أو الصلاة, وإنما قيد جواز ذلك بمجال التلقي الذي هو طريقة تعليمية لا غير.

والشرط الثاني يضمن عدم التخليط بين القراءات الذي يفضي إلى التحريف. فمن أفرد على شيخ قراءة, وضبط رواياتها وطرقها سهل عليه الجمع فيها وأمن من الخلط. وفي الوقت نفسه يفيد القارئ من مزايا الجمع وفوائده المتمثلة في سرعة الترقي والانفراد. وعلى هذا فإنه يظهر أن القول الثالث هو الراجح من بين الأقوال الثلاثة.

 

 

 



[1] - ينظر: الشال في القراءات المتواترة، ص:282

[2] - النشر: 2/194

[3] - القراءات القرآنية ص: 327

[4] - تلبيس إبليس، ص:112

[5] - غيث النفع في القراءات السبع، ص: 25-26

[6] - سنن القراء، ص: 4، نقلا عن القراءات القرآنية، ص: 243

[7] - النشر: 2/195

[8] -منجد المقرئين, ص:13

[9] - النشر: 2/195

-[10] المصدر نفسه : 2/195

[11] - المصدر نفسه

[12] - المصدر نفسه

[13] - المصدر نفسه: 2/196